أدون هذا المقال بحذر شديد، لأنني أدرك تماما أن هناك من سيفهم مقالي على هواه، دون أن يفكر أن هدفي الرئيس منه، هو إيضاح ما غفلت عنه بعض الفتيات وعلى الأخص المراهقات، أكتب في هذا الموضوع الذي سأتطرق إليه في السطور القادمة، انطلاقا من أن لديّ قاعدة لا بأس بها من القارئات الصغيرات في العمر، بسبب الكتب التي كتبتها خصيصا لهن، من هذه القاعدة أكتب اليوم فقط للصغيرات اليافعات النبيلات، فهذا المقال لهن وحدهن.

كانت "الوطن" هي أول من كتبت عن هروب فتاة سعودية في عمر 17 عاما إلى جورجيا، حاملة معها جوازات سفر أسرتها وأيضا جوالاتهم الشخصية، بينما كانت الأسرة تقضي إجازتها في طرابزون التركية. قررت الفتاة الصغيرة أن تترك مجدها وقبيلتها وتاريخها وحياتها لتنطلق إلى فضاء آخر، ولا أحد يستطيع أن يؤكد على أن الفتاة كانت تعاني كما كتبت عبر حسابها في "تويتر"، من ضغوطات أسرية وتحرشات جسدية، حتى لو أنها نشرت الفيديو الخاص وهي تشير إلى أن والدها يقوم بربط أخيها بالسلاسل، محاولا ضربه وترويعه وتهديده، كل ذلك من وجهة نظري هي نصف الحقيقة وليست الحقيقة كاملة، كما أن ما تقوله لا يمكن إصدار الحكم عليه مبكراً، ما زلت أؤمن بما قاله تولستوي في روايته الشهيرة "أنا كارنينا"، وهي الجملة التي افتتح بها روايته، حيث كتب "أن كل العائلات السعيدة متشابهة، ولكن العائلات غير السعيدة كل منها غير سعيدة بطريقتها الخاصة"، فالسعادة من وجهة نظري تختلف من شخص إلى آخر ومثله أيضا الوجع والأسى، فأمي -حفظها الله- بمجرد أن ينقطع الماء عن البيت تشعر بأن هناك انقلابا قد حدث، إنها أحيانا تبكي وكأن الموضوع هو من يحدد حياتها القادمة، لهذا لا يمكن لنا الحكم على ما يمكن أن يدفع شهد الصغيرة لأن تترك أسرتها، وتقرر الهروب إلى دولة أخرى والبدء بحياة جديدة وهي لا تزال ترفل في عمر المراهقة، كل منا لديه متاعبه الشخصية وأحزانه التي يستطيع أحدهم أن يتحملها، فيما البعض الآخر يجد أنها آخر المطاف وأن بإمكانها أن تقتله!

الأغرب من هروب شهد إلى جورجيا، هو ما وجدته من ثناء من بعض الفتيات على قيامها بذلك، وهذه بالنسبة لي مصيبة لا بد للمجتمع أن يتطرق إليها، لا بد أن يكون لدى هؤلاء الصغيرات وعي بأن الهروب لا يمكن أن يكون حلّاً لأي مشكلة، ولا يمكن أن يكون انتصارا خاصا، وأنه لا يجلب الفرح أو البهجة مطلقا، فالهاربة ليست من شجرة مقطوعة وإنما تنتمي إلى أسرة وقبيلة ومجتمع، وهي عندما تقوم بذلك فهي لا تهين ذاتها فقط وإنما تهين باقي أفراد الأسرة الذين سيحملون هذا العار دوما معهم، وأنا أسميه عارا بالتأكيد، لأن المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع محافظ من الدرجة الأولى، ويهتم ويستمع إلى وجهات نظر الآخرين، فهو يعيش داخل منظومة تراتبها العقائدية والاجتماعية تأخذ المرتبة الأولى، والفتاة ليست وحدها من تجلب العار، أيضا الشاب هو الآخر يجلب أكثر من عار إلى أسرته وقبيلته، ويندرج ذلك على الأسر التي خرج من أبنائها المنتمين إلى داعش، فكم أسرة ظهرت على الإعلام لتعلن تبرئتها من أفعال أبنائها، ولتقول للمجتمع إنها لم تكن تعلم عن أمر أبنائها وفكرهم الداعشي إلا حين تم القبض عليهم.

التشجيع الذي وجدته الصغيرة الهاربة إلى جورجيا، يجب علينا أن نتوقف أمامه طويلا، المؤلم من يقول لها انطلقي إلى الفضاء الخارجي، وكوني حُرة، وأخرى تقول لها اصبري فأنت الآن في الجنة، ومغردة أخرى تمجدها لأنها ألهمتها وهي تبارك خطواتها! أي جنون يمكن أن يصدقه عقل، صغار يمجدون لمراهقة لأنها تركت وطنها وأسرتها لأسباب لا تزال بالنسبة لنا مجهولة، وربما لا تستحق كل ما قامت به، نظرا لعدم وعيها بأنها الآن ستكون معزولة تماما عن الحياة التي ظنت أنها مورقة ومزعجة.

لقد شهدت في مراهقتي المبكرة، حكاية تقارب شبها لحكاية شهد وإن اختلفت التفاصيل، فبعد أن انتهينا من آخر يوم في امتحانات المرحلة المتوسطة، هناك من طرق الباب علينا، ليسألنا عن "فلانة" وإذا ما كنا قد رأيناها أم لا؟ كانت زميلة في المدرسة وأعرف اسمها فقط، وبعد غياب استمر أكثر من 24 ساعة، انتفض الحي بأكمله بسبب غياب المراهقة، وبات الجميع يبحثون مع الأسرة المكلومة التي يشهد الجميع على تمسكهم بالدين وتشددهم بالأخلاق وسلوكهم الحميد إلى جانب تعاونهم ومحبتهم للجميع. لم ننم تلك الليلة ونحن نفكر بما يمكن أن يحدث لها، وهل هي هاربة أم أنها مخطوفة؟ في نهاية الأمر تم القبض على المراهقة، وتداول الجميع قصتها وتم وضعها في سجن الأحداث، وأول ما فعلته الأسرة بعد هذه الفضيحة، أنها تركت الحي والمدينة، وانتقلت إلى مدينة أخرى، هربا من نظرات وتساؤلات الناس، وحتى بعد مرور كل هذه الأعوام الطويلة لا يزال الكثيرون يتداولون سيرة الفتاة وحكاية هروبها، ولم تظهر الأسرة إلى المجتمع بشكل واضح وعلني إلا بعد سنوات عديدة، لم تكن تستطيع أن تتحمل ما قيل عنهم وعن ابنتهم التي كبرت الآن، وبدأت حياة جديدة وأصبحت أمًّا.