فكرة ظلت تراوده، أكثر من عامين، لم يستطع البوح بها، خوفاً من الصدمة، حاول مراراً تناسيها، تارة بتهميشها وتارة أخرى بتقزيمها، دخل في صراع بين عقله الباطن القابض على الفكرة الشاردة، وعقله الظاهر الخائف من سوء العاقبة، أصبح في حيرة من أمره، شارد الذهن، إحساس الفنان كان يقوده في كل مرة، إلى المكان الصحيح، عقد العزم ولم يتردد، باح بحلمه لعراب التنمية وقائدها أمير منطقة عسير فيصل بن خالد، الذي حقق الحلم، وجعل من فكرته أشهر مزار للسياح، تحول رويدا رويدا إلى مسرح مفتوح، يجاور وينافس في روعته مسرح قرية المفتاحة، تلك هي بداية قصة شارع الفن مع صاحبها الفنان التشكيلي عوض زارب القحطاني.


700 مظلة

تظل المظلات المعلقة والممتدة على طول امتداد شارع الفن لأكثر من "250م" من العلامات الفارقة التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير وملفت، مما جعلها تجذب السياح للمكان لروعة تشكيلاتها وألوانها الزاهية المتناسقة.

القحطاني أكد لـ"الوطن" أن عدد المظلات المعلقة 700مظلة ، ومع صيانتها تجاوز عددها 2000 مظلة تم تغييرها بسبب الأمطار الغزيرة والرياح الشديدة، وقال "إن فكرتها استوحاها من أحد الشوارع المشهورة في هولندا".

وأضاف أنه وفريق عمله كانوا حريصين على أن يأخذ ديكور المشروع من الهندسة المعمارية لقرى منطقة عسير، وهذا ما تم من خلال بناء 10 مراسم على طول امتداد المظلات المعلقة على جانبي الممشى، استفاد منها أكثر من 300 فنان وفنانة. وقال "مع الإقبال الكبير من الزوار والسياح تم توفير استاندات، ومواد الرسم في الهواء الطلق، فكانت النتائج مبهرة، حيث ظهرت مواهب تفوقت في أعمالها على المحترفين، مبينا أن جميع الأعمال تعرض للجمهور في معرض المفتاحة للفنون كل أسبوع.


تجمهر عفوي

لاحظنا تجمهرا عفويا حول الفنان علي الوادعي الذي هز بريشته وجدان الجميع، وهو يبدع في رسم صورة للطفل السوري عمران، الذي تناقلت وسائل الإعلام العالمية حادثة إنقاذه من بين أنقاض منزل أسرته، بعد قصفه من قبل الطيران الروسي، تلك الصورة التي صدمت العالم كانت حاضرة في شارع الفن، مؤكدا أن دور الفنان هو التفاعل مع قضايا ومشاكل مجتمعه.


600 خطاط

المشرف على مركز "ابن البواب للخط العربي" الذي تشرف عليه وزارة التعليم الخطاط سراج العمري، أكد نجاح فكرة شارع الفن وقال "إن أكثر من 600 متدرب تابعين للمركز اعتاد معظمهم على عرض أعمالهم في شارع الفن، وفي الهواء الطلق".


الأسر المنتجة

وجدت الأسر المنتجة ضالتها في تسويق بضائعها من الأغذية والمشروبات الشعبية، وأكد صاحب متجر بيتوتي علي حامد، ارتفاع نسبة المعروض والإقبال على ما تعرضه الأسر المنتجة على امتداد شارع الفن. وتوقع بنهاية موسم الصيف تجاوز مبيعات الأسر المنتجة النظامية وغير النظامية أكثر من مليوني ريال.




صوت الأرض

عند لوحة للفنان طلال المداح شدنا حديث بين شاب في العشرين من العمر ومسن في الستين، الشاب يطالب بتغيير اسم شارع الفن باسم طلال مداح بمناسبة ذكرى مرور 16 عاما على وفاته على مسرح المفتاحة المجاور للمكان، بينما المسن كان يعارض وبشدة، وقال "يا ولدي ترحم عليه وادعو له بالمغفرة والرحمة، وخلوا الشارع باسم شارع المفتاحة"، مع استمرار النقاش الحضاري بين جيلين جمعهما شارع الفن انتقلنا إلى جانب آخر من الشارع الجميل بكل ما فيه.




الفطيرة الفرنسية

أبو ندى وزوجته قدما من الدمام لعرض ما يقومان به من طهي نوع خاص من الفطائر يسمى "التاوه" أو الفطيرة الفرنسية، في شارع الفن، حيث يؤكد أن الفطيرة لا يتعدى تجهيزها أكثر من دقيقة وعشرين ثانية وتباع بـ 15 ريالا، وأبدى دهشته من الإقبال الكبير من السياح على تناولها، وقال "إن مبيعاته اليومية تتجاوز 4 آلاف ريال".




توبة درباوي

لفت نظرنا تواجد سيارة يابانية داخل شارع الفن، آثار التفحيط واضحة في إطاراتها، وما هي إلا لحظات حتى ظهر لنا شاب في الـ18من العمر وعلى محياه ابتسامة صادقة، وقال ممازحا هي للبيع ما وراها خير، ضيفنا على "شاهي جمري" وسمبوسة، قلنا له ولكن بعد أن تفك اللغز المحير، كيف درباوي وبائع للشاهي، جاء رده سريعا قائلا لست درباويا واسمي راكان المغيدي، نعم كنت أفحط على خفيف قالها ضاحكا، وعندما عصرتني الحاجة وجدت ضالتي مع أحد الشباب واسمه عبدالله الصوقعي في بيع الأكلات الشعبية وبعض الحلويات وشاهي الجمر، وقال بفضل الله الدخل اليومي يتجاوز 400 ريال. وقال "أرجو أن تنقلوا عني أن شباب الوطن فيهم خير ولكنهم يحتاجون لمثل هذه الأفكار لقضاء أوقات فراغهم في شيء مفيد لهم ولأسرهم".




سجادة الورود

لم ننته من جولتنا ولكن شدت أنظارنا سجادة الورود المقابلة لشارع الفن من الجهة الجنوبية، وما تحويه من ورود وازهار يزيد عددها على 10 آلاف زهرة مختلفة، يلفها ممشى مزدحم بالسياح، استوقنا مجموعة من الشباب المرتدين للزي الشعبي العسيري وهم يعرضون بضاعتهم من عصائب النباتات العطرية، حيث أكد أحدهم ويدعى خالد العسيري أن مبيعاته تتجاوز 200 ريال، وقال هناك إقبال كبير على اقتنائها من السياح خاصة الخليجيين.




تجربة ناجحة

مسن يبلغ من العمر 79عاما يدعى عبدالله العيشان، قال قدمت إلى أبها من القويعية، واستوقفتني تجربة شارع الفن، وطالب بضرورة دعم مثل هذه التجارب وعدم محاربتها. وقال "كل تجربة قابلة للتقييم، فيعزز الإيجابي منها، ويصحح السلبي"، وتمنى مستقبلا تخصيص أيام للعوائل، وأخرى للشباب، وأن يفصل ممشى النساء عن الرجال، وأن لا يدخل العمران على الموقع، والموسيقى والصخب وأن يبقى الهدوء هو ميزة المكان.




أينشتاين وزويل

المرسم الحر كشف عن مواهب مدفونة يتضح ذلك في اللوحات المعبرة والرائعة وبمختلف المدارس الفنية وطرق الرسم المتعددة، ولكن يجذبك كثيرا ما أنتجته أنامل أطفال من لوحات تبقى راسخة في ذهن كل سائح ومتذوق. الطفلة همس القاسم "12"عاما سائحة قادمة مع أسرتها من تبوك، شدتنا وهي ترسم العالم الأشهر "البرت أينشتاين"، تمنت استمرار هذا المرسم كونه يعرض أعمال الفنان على الآلاف من الناس ولا يحتاجون إلى واسطة أو معارض خاصة، وعلى بعد عدة أمتار جذبتنا صورة أخرى معبرة لعالم الكيمياء العربي أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل، وثالثة لأبطال الحد الجنوبي، ورابعة بل عشرات اللوحات ذات القيمة الفنية العالية من حيث الفكرة والإتقان واستخدام الألوان وتمازجها.


ثقافة النظام

لعل أكثر ما يلفت الأنظار وأنت تتجول في شارع الفن هي ثقافة النظام التي تلمسها، فعلى الرغم من تزاحم السيارات إلا أنك لا تشعر بوجودها ولا تسمع أبواقها، الكل يمشي بهدوء، قبل دخولنا للشارع اعتذر منا الشاب عبدالعزيز القرني حارس أمن، وقال يمنع دخول السيارات من الثالثة عصرا وحتى الثالثة فجرا، أبدى لنا ارتياحه الشديد من تعاون جميع الزوار والسياح معهم، وقال "لم نسجل والحمد لله أي مشكلة منذ بداية الصيف".




ديوانية الأحمدية

في الحديقة الخلفية لشارع الفن شدنا مشهد الجلسات الشعبية، وتواجد العشرات من كبار السن، وكذا الشباب، وأكد لنا مستثمر الموقع عبدالله آل صلة، أنهم يقدمون المشروبات والأكلات الشعبية. وقال إن معه 13 شابا سعوديا يعملون على مدار الساعة. وأكد أن الدخل اليومي تجاوز 5 آلاف ريال، وفي جنبات الديوانية التقينا بمجموعة من الشباب القادمين للسياحة من الخرمة، حيث أكد أحدهم ويدعى راجس السبيعي، على ضرورة احتفاظ مثل هذه الديوانيات بالطابع التراثي.

بدوره أبدى أحمد العتيبي "قادم من الرياض" دهشته بما شاهده في أبها، وقال كل شيء فيها جميل ويجب دعم مثل هذه الأفكار الخلاقة وفق الضوابط الشرعية. وفي جلسة أخرى تمنى أحد المسنين ويدعى عبدالرحمن القحطاني توفير دورات مياه للجنسين في شارع الفن.




الـ11 في أبها

كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساء في أبها، لاحظنا زحفا من زوار شارع الفن باتجاه بحيرة السد القريبة، وتوقفا للمركبات، وهدوءا يسبق العاصفة، وما هي إلا ثوان حتى انتشرت الألعاب النارية في سماء أبها لتطوي معها قصتنا الجميلة في شارع الفن والحياة.