مرت الأزمة السورية بأطوار متعددة، وتبدلت تفاصيل المشهد والأحداث، وتبدل معها الاهتمام العالمي، من حيث الكم ومن حيث النوع، ويمكننا بقليل من القسر أن نقسم هذه الأطوار إلى مراحل رئيسة تتوزع عليها السنوات الخمس الماضية، فهي بدأت في مارس 2011 بمرحلة الثورة السلمية، وتميزت هذه المرحلة بالمشاركة الشعبية الكبيرة، وتصدر الشباب للمشهد، وانخراط معظم أطياف المجتمع السوري فيها، مشاركين أو متعاطفين، وقد حظيت هذه المرحلة باهتمام عالمي غير مسبوق، وتعاطف الرأي العام في جميع أنحاء العالم مع هذه الثورة، واحتلت مساحات كبيرة من وسائل الإعلام، ومن ساعات البث على الفضائيات، ومن الرسائل المتناقلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي هذه المرحلة تشكلت مجموعة أصدقاء سورية وضمت 130 دولة تقريباً، وفي تلك المرحلة أصبح المعارضون السوريون ضيوفاً دائمين على شاشات التلفزيون، وصار كل تفصيل يقع على الأرض السورية محط اهتمام العالم، وكذلك تحول الأطفال السوريون لرمز عالمي، وبعضهم صار معروفاً على امتداد العالم، بأسمائهم ووجوههم.

المرحلة التالية كانت مرحلة الجيش الحر، أو الثورة المسلحة، وخلالها استمر التعاطف العالمي، وتفهم العالم اضطرار السوريين لحمل السلاح، وواصل التضامن معهم ودعمهم، واستمرت وسائل الإعلام بالتركيز على التفاصيل اليومية للحرب السورية. بعد ذلك جاءت مرحلة جديدة يمكن لنا أن نسميها مرحلة القاعدة، وهي بدأت مع توسع سيطرة جبهة النصرة، وتتوجت بإعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام، وفي هذه المرحلة تغير نوع الاهتمام العالمي بسورية، وحافظ قليلاً على وتيرته، فصارت الحرب السورية تعني الحرب على الإرهاب، وترافقت هذه المرحلة مع موجة الهجرة الضخمة التي حملت ملايين السوريين خارج بلادهم، ومئات الآلاف منهم إلى أوروبا، وقامت هذه المرحلة على ثنائية الإرهاب والهجرة، فصار هذان هما الموضوعين الرئيسيين في الاهتمام العالمي وفي وسائل الإعلام، فصار السوري في نظر العالم واحداً من ثلاثة: إما هو ذلك المهاجر القادم "ليشاركنا حياتنا ويقاسمنا بيوتنا ويعيش من ضرائبنا"، أو هو ذلك الإرهابي الذي "سيفجر نفسه بيننا ويقتلنا في أي لحظة"، أو هو واحد من مقاتلي بشار الأسد الذين "ارتكبوا الكثير من الجرائم المخزية فيما مضى، والآن لم يعودوا يهموننا في شيء".

ضعفت موجة اللجوء، لا بسبب رغبة السوريين في البقاء في بلادهم، ولا بسبب ظروف حياتهم في بلدهم أو في البلدان المجاورة، ولكن بسبب انسداد أفق الهجرة أمامهم، واتخاذ معظم الدول المقصودة والمرغوبة إجراءات مشددة لوقف استقبال المهاجرين، وصارت الهجرة رحلة محفوفة بالمخاطر ونسب نجاحها قليلة، وبالتالي فالمغامرة تحمل مخاطر عالية ونسبة نجاح قليلة، مما يجعلها لا تستحق الجهد. 

وكذلك دخلت الحرب على الإرهاب في طور الروتين، ولم تعد قادرة على تقديم الإثارة والجذب اللذين تحتاجهما وسائل الإعلام للتركيز على قضية ما، فما الذي بقي إذًا؟

الذكريات والمآسي الإنسانية التي وقعت في الماضي (حتى لو كان هذا الماضي قريباً للغاية) لا تثير اهتمام أحد، والمآسي الإنسانية التي تكررت كثيراً لا تعود قادرة على شد انتباه المتابع، وتفقد قدرتها على التأثير في الرأي العام، وهذا ما حصل في الحرب السورية، فحين تضع قناة فضائية خبراً عاجلاً يقول "تفجير يودي بـ 35 شخصاً ...." ستمتد الأعناق وتلتفت الرؤوس لمتابعة الخبر باهتمام، وحين يكتمل الخبر بذكر منطقة ما في سورية، سيشيح المشاهد بوجهه، قائلاً في نفسه: (في سورية؟ ما الجديد في الأمر؟ أو أين الخبر في ذلك؟)، وهذا الوجه المشاح قد يكون لمشاهد عادي يبدأ يومه بمتابعة أخبار العالم، وقد يكون لوزير خارجية دولة ما، وقد يكون لمسؤول في الأمم المتحدة، لا فرق، فالجميع أشاح بوجهه، ولم يعد الجرح يؤلم غير صاحبه، وصاحبه هنا ليس السوري الآخر، بل صاحب الجرح بالمعنى الحرفي للكلمة، أي المصاب الذي تظهره الصورة وأمه وربما بعض إخوته، فالألفة مع الموت والدمار، تفقد الموت والدمار معناهما، وتحولهما إلى حدث روتيني بليد، ولذلك يمكننا أن نسمي المرحلة الحالية من الحكاية السورية بمرحلة إشاحة الوجوه، فالجميع تقريباً انفض عن سورية،ولا فرق في ذلك بين سقوط طفل بقذيفة تلقيها طائرات النظام، أو ذبح طفل آخر بالسكين على يد إحدى التنظيمات القاعدية.

الوجوه التي أشيحت عن السوريين، ستجعل وجوه السوريين أكثر حزناً، وأقل عدداً.