قبل ثلاثة أسابيع أو يزيد كشف جون شيلكوت، رئيس اللجنة البريطانية المكلفة بالتحقيق في ظروف وملابسات التدخل البريطاني في حرب العراق عام 2003 عن أن المخططات البريطانية لفترة ما بعد اجتياح العراق عام 2003 "كانت غير مناسبة على الإطلاق"، وأن اجتياح بريطانيا للعراق تم بشكل سابق لأوانه في العام 2003 دون محاولة "لاستنفاد كل الفرص" السلمية.

وفصّل السيد شيلكوت قائلاً: "استنتجنا أن بريطانيا قررت الانضمام إلى اجتياح العراق قبل استنفاد كل البدائل السلمية للوصول إلى نزع أسلحة البلاد. العمل العسكري لم يكن آنذاك حتميا". هذا بخصوص ما قبل الاجتياح، أما فيما يخص ما بعده فقال السيد شيلكوت: "رغم التحذيرات، تم التقليل من شأن عواقب الاجتياح. المخططات والتحضيرات للعراق في فترة ما بعد صدام حسين لم تكن مناسبة على الإطلاق". واعتبر رئيس لجنة التحقيق أن بريطانيا أضعفت سلطة مجلس الأمن بالتصرف دون الحصول على تأييد الأغلبية للتحرك العسكري، وأن الأسس القانونية للتدخل العسكري البريطاني في العراق "ليست مرضية".

والسؤال: ماذا نفهم من كلام السيد شيلكوت؟ والسؤال الآخر: وماذا بعد أن نفهم؟

ما نفهمه بوضوح أن الأسباب الحقيقية لهذه الحرب كانت أسباباً أخرى غير الأسباب التي أعلنتها القيادة الأميركية وتابعها توني بلير، أجندة سياسية استعمارية مهدت لمشروع تقسيم كبير، كان لا بد من إسقاط العراق لتمهيد الطريق إليه، مشروع من شأنه توفير طوق مفتت سياسياً لدولة الاحتلال تعيش آمنة في ظله، لا تخشى أياً من القوى الإقليمية الكبيرة أن تتعافى وتقرر انتزاع حق الشعب الفلسطيني وأرضه المنهوبة من براثنها. أجندة يمكن تحت مظلتها شفط بترول العراق بأبخس الأثمان وربما مجاناً، لذا ففي تقديري الشخصي لم يكن الأمر تسرعاً أو سوء تقدير للعواقب، بقدر ما كانت إشاعة الفوضى في العراق وتركه هكذا نهباً للتطرف الداعشي من طرف والصفوي من طرف آخر، هدفاً أصيلاً للقيادة الأميركية وشريكها وصديقها وتابعها البريطاني توني بلير، ضمن مسلسل زحف إمبريالي كبير لتقويض أي مشروع لقوى عظمى بالمنطقة، ولا يخفى على أحدنا أن عراق الأمس القوي بقدراته البشرية والاقتصادية والعسكرية كان بوسعه أن يكون هذه القوة.

إن مسلسل الاستنزاف الكبير لثروات دول المنطقة ومشروعاتها التنموية بإقحامها في صراعات ما يكاد يبدأ أحدها حتى ينتهي، ليس وليد الصدفة على الإطلاق، وهو دليل قائم على أنه كان يراد للعراق أن يكون ساحة لإدارة مشهد فوضى واسع تغرق فيه المنطقة بأسرها، وهو ما نشاهده الآن جميعاً، ونحن نتحسر على عراق الماضي القوي الذي كان سداً عالياً ما إن انهار حتى غرقت المنطقة كلها في طوفان الفوضى المدبرة.

ويبقى السؤال الآخر: وماذا بعد أن ثبت بالدليل استعجال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق خراب العراق في مشهد حرب ضروس قتلت الملايين وشردتهم وتركت أبناء الشعب العراقي مهددين بجميع صنوف القتل والتشريد والتخريب والتدمير على أيدي قتلة الأرض وسفاحيها الذين تداعوا إلى العراق الجريح من كل حدب وصوب؟ هل تمر الإدارتان الأميركية والبريطانية، هكذا من دون محاسبة على هذا الذي بوسعنا أن نصفه مطمئنين بأنه جريمة حرب مكتملة الأركان دفعنا ثمنها وطن عربي بحجم العراق، شهد صنوف الدمار والخراب ويعيش أبناؤه في انتظار مستقبل غائم يتربص بهم الخطر في كل سبيل؟

ما أعرفه وفق قواعد المحاسبة الغربية أن حادث الطائرة الأميركية التي أسقطها نظام القذافي فوق مدينة لوكربي الأسكتلندية عام 1988 وخلفت 259 قتيلاً من ركاب الطائرة و11 ممن سقطت على رؤوسهم، كلف ليبيا 15 عاماً من الحصار والعزلة عن العالم و2.7 مليار دولار قيمة تعويضات الضحايا.. فيا لها من صفقة رابحة تلك التي لم تكلف أميركا وبريطانيا في مقابل جرائم القتل والتشريد التي مورست في حق ملايين العراقيين سوى اعتذار توني بلير. فبكم يقدر اعتذار توني بلير في هذه الحال؟ لا شك في أنه رقم خيالي. إن بوسعنا أن نصف اعتذار المذكور وفق قواعد المحاسبة الأميركية والبريطانية بأنه أغلى اعتذار في العالم، لكن الثمن لم يدفعه بلير بالطبع.. الثمن دفعناه نحن، وطن كبير عريق عزيز أصبح مرتعاً لسفلة الخلق من الدواعش والصفويين ومن على شاكلتهم.

إن اعتذار المدعو بلير لا يكفي أبداً، فهو اعتذار لا قيمة له، بل اسمحوا لي أن أقول إنه لا قيمة لصاحبه نفسه، إذا تعلق الأمر بدمائنا وأوطاننا.. ينبغي أن يجد هذا الرجل من يحاسبه.. ينبغي أن يجد كل من اتخذ قرار هذه الحرب من يحاسبه وفق القوانين الدولية.. وهو ما كان ينبغي أن تقوم به حكومة العراق، فهذه الدماء لعراقيين، وهذه حكومتهم. لكن حكومة العراق لن تفعل شيئاً، لأسباب نعرفها جميعاً، ولا فائدة في سردها. لكن كم يحزن المرء وتعتريه الغصة حين يجد دماءنا رخيصة إلى هذا الحد.