جغرافيا الفكر تحدد تصورات الإنسان للحدود بين الناس في إطارات انتمائية، فهذه الجماعة تنتمي للأنا، وتلك الجماعة تنتمي للآخر.

الأنا والآخر هنا مجرد تعبيرات أولية ينطوي تحتها لاحقا نتائج تتحكم في العلاقات التي تجمع الإنسان مع غيره. هذه المقالات تتحرك في اتجاهين أساسيين: أولا: تحليل ونقد طبيعة الخرائط الفكرية تحديدا من خلال ربطها بظروفها التاريخية ومقاومة نزوعها لمفارقة تلك الظروف.

ثانيا: في اتجاه فحص الآثار المترتبة على تلك التقسيمات، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الأخلاقية مع الآخر.

في هذا المقال، سأحاول الإشارة إلى نقطة مهمة في سياق الهدف الأول لهذه المقالات، وهي نقطة تنوع وتعدد مرجعيات الخرائط الفكرية، وما يترتب على هذا التنوع من إرادة واختيار للفرد داخل هذه الخيارات.

سأبدأ بمثال: في الفلسفة، هناك تقسيمات مختلفة وخرائط متعددة للمذاهب والتيارات الفلسفية: سأطرح مثالين: الخريطة الأولى: تقسم الفلسفات للفلسفة اليونانية والعربية والفارسية والألمانية والإنجليزية والفرنسية..إلخ.

الخريطة الثانية: تقسّم الفلسفات إلى الفلسفة المثالية والفلسفة التجريبية والفلسفة الوجودية والبراجماتية..إلخ.

الخريطة الأولى، استخدمت مرجعية خليط من اللغوية والعرقية والسياسية. الخريطة الثانية، استخدمت مرجعية فكرية فلسفية خالصة.

السؤال هنا: لماذا يختار الكاتب أو المتحدث إحدى الخريطتين ويترك الأخرى في تصوره للخريطة الفلسفية، وما دلالة هذا الاختيار؟ ما الفرق بين وصف فيلسوف معين بأنه فيلسوف مثالي أو فيلسوف عربي؟

بالتأكيد، يمكن جمع هذه الأوصاف، لكني آخذ كل واحدة على حدة، بهدف تحليلي يمكن أن يساعدنا على فهم أبعاد ودوافع كل اختيار.

في الاختيار الأول، "فيلسوف مثالي" يبدو أن التصنيف الفلسفي هو المسيطر على تشكيل خريطة المتحدث، في المقابل نجد أن الاختيار الثاني "فيلسوف عربي" هناك هدف آخر أو معنى آخر متعالٍ على الفلسفي.

لماذا تستخدم اللغة أو العرق الذي ينتمي إليه الفيلسوف للتعبير عنه بدلا من مذهبه الفلسفي؟

هنا، يمكن أن نكون أمام الاحتمال التالي، وهو أن يكون الاهتمام الفلسفي داخل أصلا ضمن خريطة أكبر تتحكم بشكل أو بآخر في تحريكه.

مثال على هذا الاحتمال، يبدأ من النظر إلى الفلسفة ضمن خريطة أكبر "نحن وهم".

الـ"نحن" هنا، ربما تكون المسلمين أو العرب.. الخ والـ"هم" هنا، هم غير المسلمين أو الغرب..إلخ.

هنا يكون التفكير والبحث الفلسفي مدفوعا أو حتى موجها بأهداف سياسية وثقافية أكبر، تضع له الخيارات أو حتى تتحكم في قاموسه الداخلي.

هذه التركيبة ربما تمر بلا نقد وبلا وعي، باعتبار أن الخريطة الكبرى عميقة جدا لدرجة تحولها إلى منطق أساسي للفكر.

دخلت في حوارات مع أصدقاء محاولا فهم تحديدا ماذا يقصدون من أوصاف من هذا النوع "فلسفة عربية".

السؤال الأول: هل الفلسفة العربية هي الفلسفة المكتوبة باللغة العربية؟ ليس بالضرورة، فغير العربي "المستشرق مثلا" لا يتم تصنيف أعماله باعتبارها عربية ولو كتبها بالعربية.

رجال الدين والفقه في "قم" مثلا يكتبون بالعربية، لكن إنتاجهم لا يصنف عربيا. ما المقصود إذن بهذا الوصف؟

احتمال آخر، أن الفلسفة العربية هي المشغولة بالإنسان العربي. مَن العربي هنا؟ وكيف يمكن تحديده؟ في قرية سورية يتجاور فيها العرب مع الأكراد، لماذا يتوجه الاهتمام لهذا البيت ويتجاوز جاره؟ هل هذا معيار فلسفي؟ أم أن تصوراتنا الأدبية والفلسفية خاضعة لتصورات سياسية أعلى منها، تتحكم في حركتها دون وعي؟ هل الباحث الفلسفي بهذا المعنى ناشط سياسي بالمعنى العميق؟ هل أصبح البحث الأدبي والفكري أداة في تصورات أعلى للهويات دون نقد وتحليل؟

خرائط الفكر تعمل ضمن موازين القوى بينها. بمعنى أن تداخل استعمال خريطتين في الوقت ذاته يعني في كثير من الأحيان أن تكون إحدى الخرائط متحكمة أكثر في الأخرى.

في المثال السابق، تكون الخريطة الفلسفية محكومة وموجهة بالخريطة السياسية "اللغوية/العرقية". الأوصاف التي تسبق أو تتبع الأسماء أو التوجهات هي علامات على رؤى سياسية واجتماعية متعلقة بخرائط الفكر.

أذكر مرة أني وصفت زكي نجيب محمود بالفيلسوف المسلم أو العربي. بعد ذلك تأملت في هذه الأوصاف ولماذا اخترتها. ما المعلومة التي أحاول تقديمها حين اخترت تلك الأوصاف؟ لماذا لم أصفه بالفيلسوف الوضعي وهو المذهب الفلسفي الذي يعبّر عن توجهه الفلسفي؟ لماذا توارى هذا الوصف في مقابل أوصاف عقائدية أو عرقية أو لغوية؟ هذه الأسئلة يفترض أن تحيلنا إلى الخرائط الأكثر عمقا، والتي ربما مرت بلا نقد وبلا تحليل، كما تحيلنا إلى التصورات المبطنة في تلك الخرائط عن أنفسنا وعن الآخرين.

كانت هذه حالة إضافية لها علاقة بفهمنا هنا لطبيعة الخرائط الفكرية. هذه الخرائط متنوعة ومتعددة ومتداخلة. الاختيار بين هذه الخرائط وترتيبها وتحديد الأولويات بينها عمل مهم جدا، لكنه يتم في كثير من الأحيان دون تحليل ودون نقد. هذا الاستعمال خارج إطار النقد له دلالات مهمة في توجيه الفكر وتحديد أولوياته وتوجيه حركته.

لاحقا، سأحاول الانتقال إلى الجانب الثاني من هذه الأطروحة، وهو الأثر الناتج عن الخرائط الفكرية. تحديدا الآثار المتعلقة بالمواقف الأخلاقية التي تجمع الذات مع الآخرين، بما فيها من تصورات للحقوق والواجبات.