حينما كنت في السابعة من العمر تقريبا، أخذني والدي -رحمة الله عليه- معه في السيارة إلى جازان، المدينة التي لم يكن بها أكثر من ثلاثة شوارع تنقطع في أطرافها، وكان بصحبته أحد أصدقائه الذي كان يعمل سائقا عند أحد الأثرياء في الرياض. حين وصلنا إلى المدينة اشترى لي والدي علبة عصير مشكل ، وحين انتهيت من شربها، قذفت بها من نافذة السيارة، وبعدها سمعت صوت صديق والدي -الجهوري- بلهجة شعبية تبعته ضحكة "لا ترمي القوطي في الشارع يا ولد، الله يصلحك"، وتوقف أبي بالسيارة، ونزل لأخذ علبة العصير من الشارع.

اليوم بعد مضي أكثر من 41 عاما منذ ذلك اليوم، ما زالت هذه العبارة تحضر في حياتي كلما شاهدت أحدهم يرمي شيئا في الشارع، فأسارع بالتمتمة "لا ترمي القوطي بالشارع يا ولد"، وكم تعبت من ترديدها، فقد رسخت كثقافة في حياتي. وحين انتقلت مؤخرا إلى أبها المدينة الجميلة التي تجمعني بها ذكريات قليلة لكنها جميلة، كأيام دراستي لبرمجة الكمبيوتر وتشغيله بلغة البيسك عام 1990، ظننت أنني ربما سأنسى تلك العبارة، لكنني بكل أسف فوجئت بأنها تحضر بين الفينة والأخرى، خاصة من أولئك المدخنين في سياراتهم، الذين لا يتوانون في القذف بأعقاب السجائر والمخلفات إلى الشوارع النظيفة.

ومنذ بداية مهرجان صيف أبها يجمعنا، وأنا أخرج كل صباح للتنزه والتقاط الصور في شارع الفن والسودة وبعض المتنزهات، وأحزنني أن أرى بعض المتنزهين يتركون وراءهم بقايا الأكل والقمامة في الأماكن التي جلسوا فيها مقابل المرسم والممشى، على الرغم من قرب حاويات النفايات، وهو أمر محير ومؤلم يدعو للاستغراب!

شارع الفن في حد ذاته محرض كبير على ممارسة الجمال وتقديره، فما بال بعضنا لا يتأثر حتى باسمه، ما بالنا نكرس لثقافة انتظار عامل النظافة، لينظف ما خلفنا من قمامة، وما سقط منا -ربما عرضا- من مهارة العمل الصحيح، وثقافة النظام والنظافة، والتنظيم، واحترام الأماكن، وفهم معنى شراكتنا فيها مع الآخر، وتقديرنا له ولذواتنا، وما نفقده من إحساس بجمال المكان الذي من المفترض أن يؤثر فينا إيجابا.

كل ذلك لا يدل على ضعف قدرتنا في السيطرة على أفعالنا وحسب، بل أيضا هو دلالة على قلة وعينا بما نمتلكه من جمال يحيط بنا.

سأحكي لكم قصة قصيرة، كانت مما دفعني إلى كتابة هذه المقالة، إذ قبل أيام جلست إلى طاولة طعام مصادفة مع أحد سكان تنومة، قال لي متحسرا، لدينا في تنومة مواقع سياحية رائعة جدا، لكننا نضطر إلى إغلاقها وتسييج ما يعود لنا من أملاك خاصة، نتيجة عبث من يدخلونها، وإساءتهم إلى المكان وأهله، فهم يتركون بقايا الذبائح وجلودها والنفايات، ويذهبون. لتتعفن بعدها، الأمر الذي يجلب الكلاب والمفترسات والروائح الكريهة، وذلك ما جعلنا لا نخبر هيئة السياحة عنها.

أشياء كثيرة في الواقع أحزنتني حين شاهدت مثل تلك المناظر، وعرفت عن بعض ممارسات بعض السياح، حتى إنني صرت أتردد في الذهاب اليومي إلى شارع الفن الجميل، وأعرض عن الذهاب الأسبوعي إلى كثير من الأماكن السياحية.

ومما كان عزاء بالنسبة لي، مشاهدة بعض اللوحات التي وضعتها أمانة منطقة عسير، على بعض أرصفة شوارع أبها، عن إيقاع غرامة 200 ريال على كل من يرمي مخلفات في الشارع، إلا أنها وضعت بطريقة "خجولة" جدا للأسف، أشك في أنها حققت الهدف منها، ولا أعلم ما إذا كانت الهيئة قد سجلت مخالفات ما على أحد، وإن كنت أظن أنها لم تغرم أحدا ربما.

وأقترح على هيئة السياحة وأمانة عسير توظيف مرشدين ومراقبين سياحيين يرصدون المخالفات، ويحررونها، ويوزعون المنشورات التوعوية، ويكثفون من الجهود في هذا الجانب، وأرى أن تستخدم فرق الكشافة في مثل هذه المواسم، التي تكتظ فيها أبها ومحيطها بالسياح.

وأتمنى أن يناقش الشورى سن نظام عقوبات على كل من يلقي المخلفات في الشوارع والأماكن العامة على مستوى المملكة، وإيقاع عقوبات خدمة مجتمع، على المخالفين، إضافة إلى غرامات مالية في حدود معقولة، مع التوعية المستمرة. أزعم أن ذلك كفيل بالحد من هذه العادة السيئة.