الكتاب والسنة هما المصدران الرئيسان للشريعة الإسلامية، وهما الوحيان المعصومان، اللذان من اعتصم بهما فقد هدي إلى صراط مستقيم، ومن أعرض عنهما فإن له معيشة ضنكا في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى ?اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم?، وقال تعالى ?وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا?. والدارس للفرق والجماعات المنحرفة، التي تنتسب إلى الإسلام يلحظ أنها تستدل على انحرافها بآيات من الكتاب وأحاديث من السنة، وهي لا تدل على ما ذهبوا إليه، ولا يمكن أن يدل الكتاب والسنة على معنى باطل، ولكن آفة القوم من تأويلاتهم الفاسدة، وتخرصاتهم الباطلة، التي عطلوا بها المعاني الصحيحة، وأحدثوا مكانها المعاني الباطلة، كما هو شأن الخوارج الذين عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين، وكما هو شأن أهل الكلام الذين عطلوا صفات الله عن معانيها الظاهرة، وأحدثوا تأويلات فاسدة، ونحوهما من الفرق والطوائف الضالة.

ولو سلكوا منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال لفهموا الكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم. فالصحابة رضي الله عنهم هم أبر الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأصحها فطرة، شاهدوا التنزيل، وعلموا أسبابه، وفهموا مقاصده، فهم أحرى أن يوفقوا في فهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لما خصهم الله به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وحسن القصد، وتقوى الله تعالى، فالعربية سليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرتهم وعقولهم، أثنى الله عليهم، ورضي الله عنهم، وأثنى على من اتبعهم بإحسان، كما قال تعالى ?والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه?، وأثنى عليهم رسوله عليه الصلاة والسلام، وجعل الفرقة الناجية هي ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته رضي الله عنهم.

وسأذكر هنا قصة حدثت بين الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما، وبين جمع من الخوارج، ليتضح للقارئ الكريم الفرق العظيم بين فهم الصحابة لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين فهم الخوارج الفاسد، لنصوص الكتاب والسنة، الذين استقلوا بفهمهم عن فهم الصحابة، وصاروا يستدلون بأدلة لا تدل على ما يريدون، وأعجبوا بأنفسهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم وأفهامهم، فصارت جنايتهم على الإسلام وأهله عظيمة. ومعلوم أنه: لا يستدل مستدل بدليل شرعي صحيح ليقرر به معنى باطلا إلا وكان ذلك الدليل دليلا عليه لا له، لأن النص الشرعي لا يدل على باطل أبدا. قال ابن عباس رضي الله عنه: لما خرجت الحرورية، اعتزلوا في دار على حدتهم، وكانوا ستة آلاف، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرد بالصلاة، لعلي أكلم هؤلاء القوم. قال: إني أخافهم عليك. قلت: كلا إن شاء الله، فلبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، وترجلت، ودخلت عليهم في دار نصف النهار وهم يأكلون. فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس، فما هذه الحلة؟

قلت: ما تعيبون علي؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل، ونزلت: ?قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق?. قالوا: فما جاء بك؟

قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون.

فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشا؛ فإن الله يقول: ?بل هم قوم خصمون?.

قال ابن عباس: وما أتيت قوما قط أشد اجتهادا منهم، مسهمة وجوههم من السهر، جباههم قرحة من السجود.

فقال بعضهم: لنكلمنه ولننظرن ما يقول.

قلت: هاتوا ما نقمتم على صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه؟ قالوا: ثلاث. قلت: ما هن؟

قالوا: أما إحداهن، فإنه حكم الرجال في أمر الله، وقال الله: ?إن الحكم إلا لله?، ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة.

قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، إن كانوا كفارا لقد حل سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل سبيهم ولا قتالهم.

قلت: هذه ثنتان، فما الثالثة؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين!

قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا. قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله -جل ثناؤه- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم، أترجعون؟ قالوا: نعم.

قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صير حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم؛ فأمر الله -تبارك وتعالى- أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله تبارك وتعالى: ?يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم?. وكان من حكم الله أنه صيره إلى الرجال يحكمون فيه، ولو شاء حكم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله: أحكم الرجال في صلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟ قالوا: بل حقن دمائهم، وإصلاح ذات بينهم، أفضل.

قلت: وقال تعالى في المرأة وزوجها: ?وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها?. فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل، أم حكمهم في بضع امرأة؟ قالوا: اللهم بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم. فقلت: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة؟! تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم؛ لتكذيبكم قوله تعالى:

?وأزواجه أمهاتهم?. فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج؟ فنظر بعضهم إلى بعض. فقلت: أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

فقلت: وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، قد سمعتم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي: (اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله)، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امح يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله)، فوالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم فقتلوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرون والأنصار.

فهذه قصة عظيمة، فيها فوائد كثيرة، وما يعنينا هنا بيان جناية التأويل الفاسد، والفهم السقيم، على الإسلام وأهله. فأولئك الخوارج -كما ترى أخي القارئ الكريم- ضللوا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعموم الصحابة، وقاتلوهم، وسعوا في الأرض فسادا، ومع هذه الجنايات العظيمة، يحسبون أنهم يحسنون صنعا، كل ذلك بسبب تأويلهم الفاسد للنص الشرعي. وبسبب جهلهم بمنهج الصحابة في الاستدلال.

والتأويل الفاسد: أصل خراب الدين والدنيا، فما قتل عثمان وعلي رضي الله عنهما إلا بالتأويل الفاسد، وما خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على أكثر من سبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد. فالواجب على الشباب وغير الشباب ألا يستقلوا بفهمهم للنصوص الشرعية، ولا يعجبوا بأنفسهم، وليستفيدوا من العلماء الراسخين، الذين سلكوا منهج الصحابة رضي الله عنهم، ليكون فهمهم للأدلة وفق منهح السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.