(هناك سبب وجيه لحقيقة أن لا أحد

يدرس التاريخ، وهو أنه يعلمك أكثر من

اللازم.)

نعوم تشومسكي

الحروب تفقد الإنسان وطنه، لكن الناجين

يحملون رسالتهم موقعة بانتمائهم الذي

يمثل مفخرة للأرض التي أنجبتهم. في زمننا

الحاضر نماذج متفرقة الأقوى سلاحا يقتل

والأكثر عدد مقاتلين يقاتل الأقل، في هرج

ومرج وبين صرخات الأطفال الفزعة ونياح

الثكالى ومدامع الشيوخ التي لا تجد لحى

تبللها. القاتل يقطع الرؤوس أو يفجرها

سيان، فيظل مجرد إنسان معدوم الضمير.

ومن المفارقة أن من تولى كبر فتاوى نحر

الأقارب للحاق بدولة القتل ومن زج بالشباب

في بحر مناطق ملتهبة يعيش سعيدا يشتري

العقارات أو يأخذ عمولة مليونية عليها، بينما

هو يتباكى على حال حور العين في الدنيا

ويبحر بمخيال الشباب لحور الآخرة.

ميزة اتحاد المال مع مواقع التواصل

أنه يفضح زيف أهله، فلم يستطع أكثر

المتحذلقين إلا أن يصروا عليك لمتابعتهم على

مواقع التواصل، وحين تتابعهم ستجد أنهم

يسيحون في الأرض، فيبتسم أحدهم ليخبرك

بأن المال لن يسعدك، ولكنه يجعلك تعيش

تعاستك برفاهية، وستعود بك الذاكرة لزمن

شريطه الذي كان يبيعه عليك لينثر مختلف

الأفكار التي تراجع عنها بصمت أو علانية،

وتذكر أن رفاهيته التعيسة المبتسمة على

حسابك وحساب أمثالك!

وآخر يشتري شقة في تركيا، وأنت لا تدري

هل الولاء هناك عنده للأرض والطبيعة أم

للخليفة الحاكم!

وثالث يصيح بالويل والثبور وعظائم

الأمور ليروع الناس بخبر مكذوب بحجة

طمأنتهم، وهو الذي هاجم أنقياء الأدب

والنقد وأخرجهم من الملة بخياله الكاذب

أيضا!

هل الحقيقة التي غابت حتى عنهم، أم

أنهم أيضا ضحايا لمجتمع مجد أمثالهم ردحا

من الزمن، وكان غائبا فيه عن وعي أهله،

أنهم بشر غير منزهين عن الوهم والخطأ،

وعاد اليوم ليضعهم في المكان الصحيح الذي

يستحقونه.

لو عدنا لتاريخنا القريب لوجدنا أنه

يحسب لجيلنا أننا صحونا على عدو واحد

متفق عليه هو إسرائيل، ورددنا نشيدا واحدا

هو: بلاد العرب أوطاني، أو ربما نشيدين

اثنين: بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي،

وأن آباءنا وأمهاتنا أصلنا الذي نستمد منه،

وأن أبناءنا مستقبلنا الذي نأمله.

كانت شوارعنا آمنة لا تقتل البشر رغم أن

الأسفلت لم يطل حواريها الضيقة.

صحونا اليوم وإذا العدو قد تشظى

فأصبح منا وأقرب إلينا قبل أن يكون من

غيرنا، حتى أصبح منظرا مكروها رؤية

المسلم كث اللحية أينما سار في العالم، وعندنا

يوحي بالخوف أكثر من الطاقية اليهودية

السوداء، بل أصبح بعضنا يميل للصلح مع

الصهاينة ويرى أن الفلسطينيين على خطأ،

هل هناك هوان أكثر؟! أصبحنا باختصار

نعادي أنفسنا وأبناءنا، أليس هذا أقسى ما

يمكن أن يمرّ بنا أو نمرّ به؟!

السؤال المخيف لكل الأجيال اليوم كيف

سيكون المستقبل؟

إلا أن إرادة الحياة أقوى تنبت مجاورة

للغم أرضي ولو انفجر بعد حين. والمفارقة

الجميلة أن وسط كل الصراعات والتهجير

والفقر والجوع الذي يعيشه الأبرياء في

مناطق الصراع تتغلب إرادة الحياة على الموت

عند الأكثر منهم فيعمرون الأرض. كثير

من الأطفال ولدوا تحت القصف وبين يدي

الجوع والبؤس، وغير كثير من النازحين

وجه المدن التي انتقلوا لها ناشرين مهاراتهم

العملية والحرفية التي كانوا يمارسونها في

عربية cnbc أوطانهم، وقد عرضت قناة

تقريرا عن تأثير السوريين في مصر على نمط

الغذاء بالمحلات التي افتتحوها، كشف هذا

التقرير إعجاب المصريين بذلك.

كما حرك السوريون مصانع في لبنان

وأحيوا أماكن لورش كانت مهجورة قبل

حضورهم.

قبل السوريين كان المهاجرون أو

المهجرون العراقيون في العالم نموذجا رائعا

للإنسان الفاعل الإيجابي المثقف، طبيبا

كان أو أديبا. وقبل عقود عرفنا الفلسطيني

والحلبي والحموي معلمين في كل مجال.

وقد سبق من سنوات طوال أن هجرت

الشيوعية العلماء والمفكرين لأقاصي الدنيا

كالأميركتين، وقد استفادت الدول منهم.

والدرس المستفاد من تجارب الناجين

المبدعين هو أننا يمكن أن نعيد بناء أنفسنا

مرات ومرات، وألا نستسلم لما يقف في

طريقنا من عقبات، وأننا يجب أن نركز على

صناعة الإنسان، فالذين تسمح لهم أوروبا

وغيرها من الدول بالعبور غالبا هم الأقوياء

المسلحون بوعي علمي وعملي يفتح لهم كل

المعابر.

الحقيقة الماثلة أمام أعين العالم أن صناعة

الإنسان ودعمه أولا هما ما يجعلان إنجاز

الوطن يتمدد خارج الجغرافيا، فمن المفخرة

للشباب والشيوخ أنهم رغم ظروف الحياة

التي عاشوها قبل الحرب لم يبخلوا على

أنفسهم بكل ما يمكن أن يجعلهم أفضل،

بدلا من الانشغال بالآخرين، انشغلوا بتنمية

ذواتهم التي صمدت لرياح التغييرات السلبية

كما تصمد الأشجار العظيمة أمام الرياح

العاتية.

يقول مفخرة العرب العلمية الدكتور أحمد

زويل، رحمه الله: (الغرب ليسوا عباقرة

ونحن لسنا أغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل

حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى

يفشل!)

واجبنا الأخلاقي أن نقرأ تجارب النجاح

هذه ونعممها على شباب العرب الذين تفرقت

بهم السبل وقادتهم للإحباط أو الفشل، وأن

ندعمهم ليختاروا طريقهم في صناعة الحياة.