الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش في عزلة عن بني جنسه، وهنا يبرز دور وسائل وتقنيات الإعلام في التواصل الاجتماعي والاتصال الثقافي بشكل أكبر وأسرع من أزمنة ماضية سبقت اختراع وتطور هذه التقنيات، وفي ظل تيار "التثاقف" الجارف هذا تبرز أهمية تقديم القيم الإنسانية لثقافتنا المحلية للثقافات الأخرى، ليس باعتبارها "الأفضل" وإنما باعتبارها "منتجا إنسانيا" ذا قيمة.
ولذلك فإن وسائل الإعلام -باختلاف أشكالها- يفترض أن تظهر الأثر الإيجابي للثقافة بالعمل على تسهيل إنتاجها ونشرها بالوسائل المتخصصة في "الإعلام الثقافي"، حيث يعتبر المحتوى الإعلامي المرئي من أهم السبل لتقديم ثقافة إيجابية إلى المجتمعات الأخرى تسهم في تحسين الصورة المغلوطة، وتغيير القناعات والأحكام المسبقة.
ولكن الكثير من وسائل إعلامنا التقليدية غير قادرة حتى الآن على مجاراة ما يضخ في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من محتوى إعلامي يعمّق الصورة النمطية التقليدية لدى الآخر، عن صور "التخلف" و"التطرف" و"معاداة الآخر" التي تعيشها ثقافتنا العربية الإسلامية من جهة وثقافتنا السعودية من جهة أخرى، حيث إن المحتوى الإعلامي الذي يصل إلى العالم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي تتكرس فيه الصورة السابقة التي ارتسمت عن ثقافتنا، فما أن يفتي شخص ما بفتوى غريبة تمثله بشكل فردي إلا ويوصم السعوديون بالتطرف والتخلف، وما أن يحطّم شخص مسرحا أو يقوم آخر بكيل الشتائم لتمثال معبرا عن رغبته بتحطيمه، وما أن تقوم امرأة بقطع "سلك" في مكان عام اعتراضا على أهازيج معينة، إلا ويوصم السعوديون بأنهم يعادون أنفسهم قبل معاداة الآخر! قد تعبر مثل هذه الأمور عن وجود شريحة مجتمعية متطرفة، ولكنها لا تعبر عن كافة أفراد المجتمع السعودي الذين تبرز فيهم وبينهم سمات إنسانية نبيلة كالتعايش والتسامح والكرم، غير أن هذه القيم لم تسلم من تأثير "الأيديولوجيا" في فترة الصحوة. وبالنسبة للقصور أو الخلل في النشاط الثقافي المقدم للآخر، سواء في المشاركات السعودية العالمية من جانب والذي يتمثل غالبا بنوعية المشاركين وعدم التفريق بين الخطاب الموجه للداخل والخطاب الموجه الخارج، ومن الجانب الآخر وجود الضعف في جهود إعلامنا الثقافي المقدمة للخارج، سواء في وسائل الإعلام التقليدية أو الجديدة.
وذلك على عكس المشاركات الرياضية التي أبرزت اسم المملكة وكانت مشرفة في غالب المحافل الدولية على مدى أربعين عاما ماضية، توجت هذا العام بمشاركة المرأة رسميا في المحافل الرياضية الدولية. وفي المقابل فإن الصور المتعددة للإبداع المحلي في الفكر والأدب والفنون، من المفترض أن تقدم للآخر على المستوى العالمي نفسه، على الرغم من أن نجاح الإعلام الثقافي مرهون بوجود الفعل الثقافي الذي يمكن تقديمه للجماهير.
وخلال العقود الثلاثة الماضية برزت فعاليات جيدة أسهمت في إثراء ثقافتنا السعودية وتقديمها للآخر، وعلى الرغم من أن هذه الإطلالات كانت موسمية إلا أنها كانت فاعلة نتيجة دعمها وتوجيهها، ونذكر منها على سبيل المثال مهرجان "الجنادرية" الذي أسهم طوال أكثر من ثلاثة عقود بجهود من وزارة الحرس الوطني في إبراز جوانب من الثقافة السعودية للعالم، وكذلك مهرجان "سوق عكاظ" الذي نعيش هذه الأيام اكتمال عامه العاشر وبدء عقده الأول، حيث استطاع بجهود ذاتية من إمارة منطقة مكة المكرمة أن يعيد ارتسامه من جديد على الخارطة الثقافية ونتمنى استمراره ووصوله للعالمية، وكذلك "معرض الرياض الدولي للكتاب" الذي أكمل عشر سنوات من التجربة الناجحة، وبدأ بعده "معرض جدة الدولي للكتاب" بجهود من وزارة الثقافة والإعلام، وعلى الرغم من جهود المؤسسات الحكومية والأهلية في مثل هذه المهرجانات إلا أن الحاجة ملحة إلى آفاق ثقافية جديدة في ضوء الجوانب الثقافية لرؤية المملكة العربية السعودية 2030، وبرنامج التحول الوطني 2020 على المستويين الداخلي والخارجي.
وفي مثل هذه المناسبات والفعاليات الآنفة الذكر تسهم وسائل الإعلامية السعودية بتقديمها إلى العالم كفعل ثقافي سعودي، وتبرز من خلالها حالات اكتشاف أو فوز المبدعين السعوديين في مختلف مجالاتهم، إضافة إلى تكريم المبدعين من الرواد في مختلف المجالات وهذه مبادرات حسنة تستحق الإشادة والشكر بلا شك.
لكن الواقع قد تغير فأصبحت هذه الجهود غير كافية، لأن الصورة التقليدية عن الثقافة السعودية -بالنسبة للبلدان العربية والعالمية- ما زالت موجودة نظرا لما أشرنا إليه سابقا من ضعف كثافة ونوعية النشاط الثقافي وضعف الإقبال والتغطية الإعلامية، والاستمرار في هذا الضعف سيؤدي إلى "فراغ حيوي" في إبراز ثقاتنا السعودية وقيمتها الإنسانية، وهنا تبرز الحاجة إلى تفعيل التواجد من خلال المشاركات الثقافية الدولية، عن طريق الوزارات والمؤسسات الحكومية وعن طريق المؤسسات الخاصة ومؤسسات المجتمع المدني، من أجل تقديم الفعل الثقافي السعودي كقيمة ثقافية عالمية.