بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة قوى المحور، إيطاليا موسوليني وألمانيا هتلر ويابان هيروهيتو، بدأت قراءة نقديّة لجذور الخراب الذي لحق بمجتمعات القارة الأوروبية، التي شهدت جغرافيتها حروبا أرسلت إلى المقابر عشرات الملايين، وطالت لعنتها سلما اجتماعيا لم يكد يتعافى من صدمة الحرب الكونية الأولى حتى عاجله سبتمبر 1939 باندلاع الشرارة الأولى لحرب ما زالت تُلقي بظلالها على خارطة العلاقات الدولية، ويعين فهم الحدود التي رسمتها على معرفة يمين القارة العجوز الذي يجدُ من المنابر ما يحتفي بصعوده في الوقت الراهن، مع ما يعنيه ذلك من استعادات لأفكار وأسماء لها في النازية والفاشية ومحافظي أميركا الجدد صِلات قُربى ومرجعيات مؤسِسَة.

نتائج الحرب الكونية الثانية أخذت وعود "عصر الأنوار" والفلسفة الإنسانوية إلى مباضع النقد التي حاولت عبر أسئلة لم تُخفِ جذريتها، وضع اليد على أسباب الانهيار الذي بدأ مع الحرب الأولى، وساهم في تشكيل "مدرسة فرانكفورت" النقدية التي خاضت في جدلية التنوير، وقلّبت أوراق الحضارة المعاصرة، رغبة في استكناه انغلاق الفلسفة الماركسية ابتداءً، ثم البحث في مآلات النازية التي شوهت الحياة الألمانية، خاصة في جانبها المُعلي من شأن العرقِ، وما يلحق بالأفكار المهيمنة في المجتمعات الإنسانية من تناقض يقودها، أحيانا، إلى العمل ضد مصلحة إنسانها، ناهيك عما يسكنها من شوق لـ"تحضير" أو "عقلنة" الآخر الذي عادة ما يحل شاهدا على تفوق الرؤية وانتصار معناها.

انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وراحت الحيوات السياسية في أوروبا تنأى بنفسها عن جروح الذاكرةِ المُشبعة بدعاوى عنصرية أهلكت الزرع والضرع، ودفعت القارة العجوز إلى استقدام المزيد من الأيدي العاملة لبنائها من جديد، خاصة من أبناء المستعمرات السابقة. عنى ذلك إقبالا، في الزمان والمكان، على ثقافات ولغات وأنماط حياة لم يعهدها النسق الاجتماعي المضيف، بدا وجودها منسجما مع الحاجة "الوظيفية" المُحاطة بآمال اقتصادية عريضة، مع تفاوت مقصود في التعامل مع الوافدين الجدد. فتارة يُستقبلون بالحض على ضرورة الاندماج المنظور إليه قناة رئيسة للترقي الاجتماعي والاقتصادي، وتارة أخرى يصلون إلى "أرض الأحلام" دون أن يجدوا ما يدعوهم إلى الخروج من أحيائِهم، أو ما تسميه اللغة المتشائمة: ذهنية الغيتو. ويمكن اعتبار النموذج الفرنسي مُعبرا عن التوجه الأولى، في حين يصح أن يُستدعى المثال البريطاني ليُعبر عن الاتجاه الآخر.

جاءت تسعينات القرن الماضي، بعد تهاوي جدران سميكة في الشرق الأوروبي، واحتفاء الليبرالية الغربية بسقوط اتحاد منافسها الشيوعي اللدود، لتشيع أن الرأسمالية الظافرة، الوجه الاقتصادي لليبرالية "نهاية التاريخ"، هي الطريق المُثلى لإدارة مجتمعات الأرض، وأن الحدود التقليدية بين الدول ليست عائقا تواصليا بين المجتمعات، إذ ساهمت منتجات الإعلام العابر للقارات، والرساميل المتنقلة، وأمواج المهاجرين غير المسبوقة، وانتشار المفاهيم المابعد حداثية المُستخفة بسرديات التفوق والمشجعة على التعرف إلى الغريب، في التقليل من شأن الأجنحة اليمينية في المجتمعات الأوروبية، وبزوغ نجوم "أقلوية" في الأدب كما في الفن والسياسة، حتى افتُتحت الألفية الثالثة بحصول حزب الحرية اليميني، بزعامة يورغ هايدر، على 27% من الأصوات في الانتخابات العامة النمساوية، ما أهلَّ الحزب للمشاركة في الحكومة الائتلافية آنذاك، وتمهيد الطريق ليصبح هايدر المستشار الاتحادي بفعل الأمر الانتخابي الواقع، إلا أن الانتقادات الدولية حالت دون وصوله إلى منصب المستشارية، وتسنمَ ولفغانغ تشوسيل، من حزب الشعب، المنصب بدلا عنه.

بعد الرضة النمساوية، أفاقت أوروبا، والعالم معها، بعد 8 سنوات على أزمة اقتصادية، عممت نقاشات ساخنة حول مستويات البطالة وتآكل الطبقة الوسطى ومسؤولية المهاجرين في أوضاع المجتمعات الأوروبية المأزومة، التي لم تخلُ من مقاومة لهذا المد اليميني الذي وجد على ألسنة قياداته في المهاجرين وثقافاتهم، والوظائف التي "يسرقونها"، فرصة لزيادة جرعات التخويف من المستقبل في أوساط المناصرين الذين اندفعوا للتنفيس عن احتقاناتهم الاقتصادية، واستغراقهم في أسئلة تتصل بالهوية، كما يظهر لدى النازيين الجدد، إلى اعتبار "الغرباء" هدفا يعني القضاء عليه إعادة البريق إلى وجه القارة العجوز! إضافة إلى أن التفجيرات التي نفذها منتسبون للإسلام في مدن مختلفة من أوروبا، وتحت ذرائع عدة، بدءا من العاصمة السويدية استوكهولم عام 2010، وحتى حادثة الاعتداء على القس الفرنسي بمدنية روان شمالي فرنسا في يوليو الماضي، أكسبت اليمين الأوروبي شعبية تتعاظم حتى في الدول التي كانت سياساتها مرحبة، إلى وقت قريب، بالمهاجرين وطالبي اللجوء مثل الدول الإسكندنافية.

أجواء كهذه اقترب منها من أسمتهم صحيفة ألمانية " ترامبيون صغار"، رأوا في دونالد ترامب واعتلائه سدة المحافظين في الانتخابات الأميركية، وقدومه من خارج مؤسسة الحُكم، ونقمته على "الصواب السياسي" قدوة يُمكن تكرار برنامجها في مجتمعات أوروبية، آخذين بعين الاعتبار عنصرية ما زالت تحصد مزيدا من الأصوات، وديناميات اجتماعية متوجسة لم تعد تؤرقها تهمة ضيق الأفق، بعد أن رأت عالمها يحفل، مع شديد الأسف، بلغة القوة، ويردد دونما كلل أن قوت الأجيال القادمة مرهون، من بين أمورٍ أخرى، بتضييق الخناق على المهاجرين الذين تضافرت أزمات الشرق الأوسط وتعميمات اليمين الأوروبي المُنذِرة لمضاعفة معاناتهم.