الثقافات بطبيعتها تأخذ منحى المغايرة والاختلاف، وإن كانت تلك المغايرة في نسب تقل أو تكثر حسب قرب الثقافات من بعضها أو ابتعادها، ورغم المشترك الإنساني في كثير منها، إلا أن كل ثقافة تطرح فكرة مغايرتها كنوع من الحفاظ على الهوية؛ خاصة في ظل هيمنة ثقافة محددة على الثقافات الأخرى، وفي هذا العصر بالطبع تأتي الثقافة الغربية لتكون هي الثقافة المهيمنة بكل حداثتها على الثقافات الأخرى، مما يسبب عند غيرها نوعا من التمسك بالهوية بحكم الصدمة الحضارية، لكن جاءت فلسفة ما بعد الحداثة من داخل الحداثة الغربية نفسها، لتعطي الثقافات المختلفة حق الوجود من خلال نقد الحداثة، نقدا جذريا سمح بإعادة وجود الثقافات الأخرى وطرح ما لديها من اختلافات وثقافات وطبائع.
وهذا ما كنت أكرره في مقالات عديدة ويكرره غيري، وتظهر نقدية ما بعد الحداثة في حجم قيمة المختلف في الثقافة الغربية بالمقارنة مع قيمة التوحدية أو الواحدية ـ إذا صحت الاشتقاقات ـ في الثقافة الشرق أوسطية، حيث أعطت الثقافة الغربية الحالية ـ خلاف ما كانت عليه قبل حوالي القرن حيث هيمنة الحداثة والاستعمار ـ قيمة كبيرة لتعدد الأجناس والثقافات في داخلها حتى صارت فكرة التعددية أصيلة ويتم الدفاع عنها كثيرا، وليس أدل على ذلك من وجود أوباما وهو الرجل الأسود داخل البيت الأبيض بعد ما كان السود يعانون من العبودية والتمييز، إضافة إلى منافسة السيدة هيلاري كلنتون على الرئاسة مما يعني تعددية أكثر، والمرأة والرجل الأسود بحسب ما حكى لي الصديق عبدالله المطيري، بحكم قضائه سنوات في أميركا، يتم التعامل معهما بما يسمى "التمييز الإيجابي" الذي يعني إعطاء المرأة والرجل الأسود فرصة أكبر إذا تنافس مع الرجل الأبيض متى ما تساوت الشروط في كليهما، وهذا نوع من تعزيز قيمة الاختلاف والتعددية في الثقافة الأميركية، ولعل ذلك كله من قبيل المعروف لدى العديد من الناس وتكراره هنا من قبيل التأكيد على ما هو مؤكد.
في هذا المقال سأحاول أن أطرح فكرة ارتباط الحقيقة باختلاف الثقافات. فلكل ثقافة حقيقتها الخاصة بمعنى أن تشكل الحقيقة، وفق النظرة الجديدة بنسبية الحقيقة، عادة ما تكون مرتبطة بالظروف المكانية والزمانية التي تشكلت فيها الحقيقة.
كل ثقافة تطرح حقيقتها الخاصة ومن الصعب جعل الحقيقة واحدة وتتحرك متماثلة في كل الثقافات حتى تلك الحقائق أو المبادئ الكبرى كالعدالة مثلا، وهي مبدأ أصيل في كل الثقافات فإن تطبيقاتها ومفهومها يختلفان من ثقافة إلى ثقافة، فالثقافة الغربية تعتبر العدالة في المساواة بين الرجل والمرأة والأسود والأبيض في حين يكون مفهومها في الثقافة العربية هو في تحقيق العدالة السياسية أكثر من العدالة الاجتماعية بحكم ارتباط العدالة بالمفهوم السياسي أكثر وفق التصورات العربية التي كانت السياسة محورا أصيلا في تشكيل الثقافة على مدى تاريخها الإسلامي، لكن لا نجد لمفهوم المساواة قيمة لدى العربي حتى على المستوى النظري.
البيئة والزمن أو لنقل: المكان والظرف التاريخي يشكلان الحقيقة لتكون متحققة وفق تلك الشروط، وليس وفق الشروط الإنسانية لاختلاف الثقافات، فتشكل الحقيقة في اليابان أو الصين يختلف عن تشكلها في البرازيل في المغرب العربي مثلا، بل يمكن القول إن تشكل الحقيقة في المغرب العربي يختلف عنه في منطقة الخليج العربي رغم اشتراكهما في الدين واللغة، لكن تبقى الظروف السياسية والثقافية والمادية تختلف بين الثقافتين. يدافع الغربيون مثلا عن حق المرأة المسلمة في الحجاب، لكنهم يرفضون فكرة النقاب لجانب أمني، وربما إنساني، لأنهم يرون فيه ظلما للمرأة حين تغطي وجهها، في حين يرى المسلمون في الخليج حق المرأة في التغطية ويدافعون عن ثقافتهم كما يدافع الأفغان عن نقاب المرأة الأفغانية، كما أن الزواج من ابنة العم أو تعدد الزوجات له أصل تاريخي في الثقافة العربية أو الإسلامية في الوقت الذي يشكل صدمة لدى الغربيين، في حين أنه من المقبول مثلا ارتباط المرأة مع حبيبها سنوات طويلة وإنجاب أطفال كذلك من غير فكرة الزواج الأمر الذي قد يؤدي إلى القتل والثأر في الثقافة العربية، فحقيقة الأمور تختلف بين الثقافتين بحكم الشروط التاريخية المختلفة، بل إنني أطمح إلى مسألة تحقيق مفهوم الحقيقة الفريدة فحقيقة امرأة عاشت في حائل طوال سنوات عمرها تختلف عن امرأة تعيش في جدة رغم الدولة الواحدة والشكل الاجتماعي المشترك وهو المحافظة إذ يصعب على المرأة الحائلية تحرير نفسها بالقدر الذي تستطيعه المرأة الجداوية مثلا لأن الظروف المعيشية بين المدينتين مختلفتان حتى لو كانت المرأة الحائلية أكثر ثقافة من الناحية النظرية.
لكن تبقى هناك أمور لا يمكن التساهل فيها، وهي الحق الفردي للإنسان أو للمجتمع في تشكيل حقيقته، وهذا ما لا تتيحه الثقافات التي تنظر إلى الأمور بنوع من التوحيد الثقافي أو الهيمنة أو رفض المختلف كما هي الثقافة العربية حيث اضطهاد الأفكار الأخرى، فيكون من المفيد التفكير جدياً في وضع حلول لمثل تلك المسألة، وهي مطروحة في الثقافة الغربية على كل حال.