في الحقيقة أن بعض الحشرات والحيوانات الصغيرة هي فقط من تستطيع أن تغير لونها ومظهرها ليتواءم مع المحيط حولها، فلا يستطيع أحد تمييزها، أما الإنسان فلا، بالطبع. فما بالك إذا كان هذا الإنسان مسلما؟

إن علماء مثل ميشيل فوكو وغيره يزعمون أن استقلالية الإنسان نتاج حقبتهم، لكن ذلك غير حقيقي، فلقد سعى هذا الدين منذ أول لحظة إلى بناء استقلالية الإنسان الفكرية وحذره من التقليد، دون أن يقنعه الدليل ويطمئن إليه قلبه.

وإن كنت قارئا جيدا للتاريخ الإسلامي ستجد آلاف المختلفين والمستقلين فكريا في كل عصر على اختلاف مساحة اختلافهم واتجاهه، وستجد في المقابل احتراما لهذا الاختلاف -إلا فيما ندر- بل في أشد حالات الاختلاف كان الإمام يهز رأسه ويطلق جملة خالدة "اعتزلنا عطاء" دون أن يجيش الناس ضده، فيبني عطاء جماعته لتكون جماعة المعتزلة، لكن بعد أن استشرى الجهل وانهار فقه الحضارة الإسلامية أصبحت الأمة تحارب المختلفين وتكفرهم، وقتلت عددا من المبدعين.

في المقابلة التي جرت بين الشيخ عبدالرحمن الهبدان والأستاذ عبدالرحمن الخطيب في إحدى القنوات الفضائية كان الخطيب يحاول الدفاع عن حقه الذي كفل له الإسلام في أن يجد طريقه نحو مرضاة الله، عز وجل، وفق قناعاته على ضوء ما يجده ويفسره من الكتاب والسنة، لكن الشيخ الفاضل التفت نحوه وهمس: من أنت؟

حركة جسد الشيخ وإصبعه ونبرة صوته وهذا السؤال الصغير قادني نحو ألف سنة وأكثر عندما كان الإمام الأكبر أبو حنيفة يقود بغلة أمه وهي ذاهبة لتستفتي رجلا في أقصى المدينة وابنها يسأله الناس! لم يكن ذلك يغضب أبا حنيفة لأنه كان يفهم رسالة أمه والمتضمنة معاني عظيمة أرادت زرعها في نفس ولدها عن وجوب التواضع وعدم الكبر، فها هم أهل بغداد يرون أمك تستفتي غيرك.

إن احتكار العلم واستصغار الناس وقدرتهم على فهم كتاب الله تعالى أمر اُبتلينا به، فطالما تميز المذهب السلفي برفضه المرجعيات، بل ورد عن أحد أعظم رجاله (ابن حنبل) رفضه كتابة أقواله خوفا من داء المرجعيات واحتكار الأحكام.

وفي الحديث الصحيح في مسلم: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس". وهذا كاف لصناعة المبادئ الشخصية والمعايير التي يسير المسلم بحسبها ما دام أنه "لا ضرر ولا ضرار".

لقد كان عبدالرحمن الخطيب رائعا جدا وهو يدافع عن استقلالية المسلم وعلاقته بربه، لكن استوقفني أن يكون بهذه الثقافة ولا نجد فيما يقدمه وزملاؤه فنا محترما أستطيع أن أشاهده مع أطفالي دون أن أخشى من اللغة الهابطة والمشاهد المزعجة والابتذال في مناظر النساء. إن ذلك غير مقبول وغير متوقع، وأظنه للغالب من الناس الذين يتمنون فنا هادفا راقيا ليس فقط هدفه الإضحاك، بل التثقيف والوعي.

في الحقيقة تلك المناظرة حوت الكثير مما يجب أن نضعه تحت الاهتمام، للإصلاح من جانب الشيخ ومن جانب الفنان، ودون تحيز لأي طرف، فكلاهما مؤثر في مجتمعنا النامي وصلاحه، وهذا مطلبنا جميعا.