لا أزال أفكر حتى هذه اللحظة المحشوة بالتعاسة، حينما كنت في مطار الملك فهد بالدمام قبل أشهر مضت، وقام أحد الموظفين في الجوازات بافتتاح خط سير جديد، واختار حينها فقط ذوي العيون الزرقاء والبشرة البيضاء لكي تسهل معاملاتهم وخروجهم من المطار، بينما الآسيويون كان على الموظف نهرهم وإبعادهم عن الطابور، ليتكتلوا خلف بعضهم البعض دون أن ينطق أحد منهم، ودون أن يسأل أحدهم لماذا تختار هؤلاء عنا؟ هل هناك ثمة اختلاف بيننا وبينهم؟ أم لأننا نعمل لديكم في أعمال وضيعة لا ترضون بها؟ بينما هؤلاء الذين ربما لا حظ لهم في دولهم، يتنعمون بكل خيرات وطنكم وتضعونهم في مهام عمل لا يستحقونها أبدا. ما زلت أذكر دهشة المرأة البيضاء القصيرة، وقد كانت ترتدي عباءة مطرزة رخيصة الثمن لا تكاد تساوي قيمتها المئة ريال في سوق "الحُب" في الدمام، قالت مندهشة: "أوبس.. ثانك يو"، لقد تفاجأت الشقراء البيضاء من خط السير الجديد، واختيارها هي ورفيقاتها كي تكون في المقدمة وتحظى بتشريف عظيم ربما لا تجده في وطنها، بينما الأفغاني يُصرخ في وجهه لأنه طلب من الموظف الذي يرتدي البزة الرسمية الخاصة بموظفي الجوازات معروفا لأن يضعه في المقدمة، حيث كان صوت إعلان الطائرة التي سيسافر عليها يصدح في ردهات المطار، طالبا من المسافرين على الرحلة التوجه بسرعة إلى بوابة الصعود. لا أزال أذكر غرور الشاب وهو يقول له "هل تريدني أن آتي لك، أنت من تأتي لي؟" غرور فارغ، أعجز عن التبرير له، عليك أن تضع كفي الميزان أمامك، وأن تقرأ المشهد بوضوح، ذوو البشرة البيضاء يفتتح طابور خاص بهم ويتم استثناؤهم، بينما الرجل الأفغاني أو الباكستاني لا أستطيع أن أفرق بين رداء البنجابي لأي منهم، لم يلق احتراما كافيا رغم تقدم سنوات عمره، أنا متأكدة أنه ما إن يجلس على مقعد الطائرة حتى سيقضى طيلة رحلته وهو يشتم الموظف والمطار الذي لم يحترمه بسبب لون جوازه فقط!

العنف اللفظي والغطرسة موجودان على الأغلب في معظم موظفي المطارات حول العالم، لا أعلم هل هو الشعور بالنقص تجاه المسافرين، أم أنه التعب الذي يلقى عليهم، وأيضا لا مجال للتبرير، ولكن هذا ما يمكن لي أن ألمسه في معظم مطارات العالم، وبالذات في مطار إسطنبول، ما زلت أتذكر المعاملة السيئة التي لمسناها منذ تسعينات القرن الماضي، والكثيرون لا يزالون يشتكون من سوء المعاملة حتى هذه اللحظة، ولي تجارب عديدة مع موظفي المطارات لم تكن جيدة بالتأكيد، لكن ما الذي دفعني لكي أدون هذا المقال، هل هي كلمات رسول حمزاتوف التي دونها في كتابه "داغستان بلدي"؟ هل أثار شجوني حينما كتب: "عندنا في الجبال ليس هناك ضيوف صغار وضيوف كبار، مهمون أو غير مهمين، أصغر ضيف مهم بالنسبة لنا، لأنه ضيف وحسب، وأصغر ضيف يصبح أجلّ من أكبر رب بيت، إننا نستقبل الضيف عند عتبة بيتنا دون أن نسأله من أي بلد هو؟ ونقوده إلى صدر البيت الأقرب إلى الموقد، ونجلسه على الوسائد. الضيف في الجبال يظهر دائما على غير توقع، لكنه لا يفاجئنا أبدا، لا يباغتنا، لأننا ننتظره في كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة". هذه الكلمات الغارقة في المشاعر والنبل يجب أن تكتب على جدران مطارات العالم وليس مطار الدمام أو جدة والرياض، الأزمة عميقة ويعانيها المسافرون على اختلاف ألوانهم وأعراقهم ومذاهبهم.

لدى كل واحد منا قصص لا تنتهي من سوء التعامل مع معظم العاملين في المطار، ابتداء من حامل الحقائب إلى موظف الخطوط الجوية، الذي لا يكاد يرى أبعد من طرف أنفه، وصولا إلى سلم الطائرة وحتى المضيفين والمضيفات يتأففون من طلب أي خدمة بسيطة، رغم أن عملهم يبدأ بابتسامة وينتهي بمثلها.

يوم الثلاثاء ذهبت إلى طوارئ المستشفى بعد إدخال والدتي، اندفعت بالدخول، صدتني الممرضة الشقراء بعنف لفظي: "توقفي.. أغلقي الستارة، الطبيب لا يزال يفحص المريضة"، أغلقت الستارة بخوف وتذكرت ما قالته شقيقتي لموظف المطار قبل أسابيع ونحن نهم بالدخول إلى أرض الوطن: "أرجوك عليك أن تحترمنا ألا يكفي مطارات الدول الأخرى التي تعاملنا بطريقة سيئة"، المشهد لم يفارق رأسي، كلمات شقيقتي وابتسامة الموظف الجافة، وحركة أصابعه وميل رأسه، جعلاني أشعر بأنه لا يمكن لأي مخلوق على هذه البسيطة أن يعاتبني بأي طريقة كانت، فما إن انتهت الممرضة الأيرلندية من مساعدة الطبيب حتى تواجهت معها: "لا يمكن لك محادثتي بهذه الطريقة، لا تعتقدي أنه يمكنني قبول ذلك"، فيما كانت ابنة شقيقتي تقول لي كعادة معظم العرب: "اتركيها، لا عليكِ منها، لا تبددي طاقتك في الحديث معها". لم أرفع صوتي، لكني واجهتها وحظيت باحترام واعتذار كبير منها، لقد تقبلت وجهة نظري وتحدثت معي وطبطبت على كتفي، وهنا هي القوة، الاعتراف بالخطأ ومواجهته.