في الخامس عشر من أغسطس الجاري مرت بنا الذكرى السادسة لرحيل الرمز القدوة والأديب الوزير والأستاذ الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله وطيب ثراه، وهكذا هي الحياة، ميلاد ووفاة، ولكن ما بينهما من غزوات تفرق بين إنسان وآخر كما تفرق بين الثرى والثريا، وحينما يكون الغازي مثل غازي القصيبي، فلن يكون بمقدورك أن تتجاوز مسيرته الطويلة عبر سبعة عقود بكل سهولة، من ميلاده في الأحساء، تلك المدينة الجميلة التي تحمل بساطة الإنسان وتنوع الآراء الفقهية والفكرية، ومروراً بالبحرين، حيث النشأة، وحتى القاهرة، حيث البكالوريوس في القانون، ثم لوس أنجلوس لنيل الماجستير في العلاقات الدولية عن ديناميكية التفاعل بين القوة والمصلحة القومية، وذلك عبر نقد علمي بليغ لأطروحة البروفيسور الأميركي العتيد في جامعة شيكاجو هانز مورجنثاو، وذلك وهو ابن الخامسة والعشرين! ثم فيما بعد إلى لندن للدكتوراه وخلال أقل من ثلاث سنوات في رسالة عن ثورة اليمن عام 1962، لكونه مستشارا قانونيا في الوفد السعودي المفاوض مع بعض الأطراف اليمنية، وذلك إبان الصراع الدموي على السلطة بين جناحي الملكية والجمهورية في اليمن الشقيق، حيث رصدها وحللها، كنموذج للدارس النابه والدراسة المهمة التي لها علاقة بالحياة وحاجاتها، ثم تبدأ مسيرة الحياة ودفع زكاة العلم بالعمل، والتحصيل بالبناء، والخدمة بالعطاء، خادما دينه ووطنه لأرضه ومواقفه وقضاياه، فقد كان شامخا في كل ساحة يدافع عن الحق وينصره، وما موقفه إبان محنة احتلال الكويت إلا نموذج على الأخوة الصادقة، والمسؤولية الكبيرة، والعقل الراجح، حيث كان قلمه يوميا يحلق على صفحات صحيفة "الشرق الأوسط" عبر عموده "في عين العاصفة"، وكم غزا هذا الغازي الشجاع في أكثر من عين عاصفة، وما تلك السلسلة الذهبية في خضم كارثة عام 1990 "حتى لا تكون فتنة" إلا معلم من معالم ذلك الفارس الذي كان مثقفاً كبيراً وكاتباً نحريراً، ومع ذلك نجح نجاحاً باهراً في أعمال الدولة والشأن العام، جامعاً بين العلم والعمل، وهي ميزة نادرة الحصول في كل العصور، ومع كل تلك الإمكانات والمكانات، إلا أنه بقي رفيع الخلق، واسع الصدر تجاه الخصوم قبل الأصدقاء، مجاهدا في كل غزواته، حتى غزوة السرير الأبيض، التي لم يترك فيها القراءة والمتابعة، والشعر والكتابة، وحتى الترجمة والتواصل، فكم أتعب من بعده، بعد أن أتعب نفسه! والله دون سواه الذي يجازيه خير الجزاء.

سبعون عاماً مضت على أخينا وحبيبنا غازي مليئة بالخبرات والمنتجات والنماذج الناجحة للإنسان وأعماله، فكان موسوعة في كل أشيائه، ففي حياته موسوعة في تنوع أماكنها، وفي دراسته من حيث تعدد أراضيها، وفي اهتماماته بتعدد اطلاعاته، وفي منجزاته بتعدد مسؤولياته، وفي نجاحاته بتعدد مخرجاته، سواء كانت عبر الصباح بالمناصب التي قادها نحو الفلاح، أو عبر المساء بالكتب والمؤلفات التي جمعت من كل الفنون والعلوم، فكان رجلا بأمة، وموسوعة في علمه وعمله ومؤلفاته وأخلاقياته، ولم يسمح للمناصب والجاه الذاتي والأسري بأن تشكل عوائق عيب وحواجز حياء وأسوار أرستقراطية لطبقة مخملية، كما لم يسمح لكل دنيويته ومكانته بأن تبعده عن ناسه ومجتمعه، فإن نظم شعرا قلت هو الشاعر ولا غير، وإن كتب نثراً قلت هو السارد ولا غير، وإن ظهر في اللقاءات الإعلامية قلت هو الحر الذي لا يكتفه منصب ولا علاقات رسمية وحساسة، وكل مرة يقال أوشك الغازي على سقوط الرمية، فما هو إلا الرامي ولا غير، والواثق بنفسه ولا غير، والمبهر لمن حوله ولا غير، حتى كثر المعجبون به، والمنبهرون بقدراته، والغائرون على تفرداته، فما برح لا يلتفت إلى الوراء، ولا يتطلع لغير السماء.

كم سمعنا من يقول بأن هذه الظروف الزمانية والمكانية غير مواتية لظهور رجال ناجحين ومتميزين، وما هذا إلا حيلة العاجز الذي أضاف لكسله التبرير لخطئه، وها هي قامة غازي تدلنا على النموذج المثالي للرجل الناجح والنافع، فقد أتعب نفسه خلال حياته من أجل قيمه ومبادئه ومصالح أمته ووطنه، وكم نحن بحاجة لدراسات علمية حول شخصيته وسيرته ومسيرته، لنعرف كيف بنى هذا الرجل العظيم، وكيف سار نحو المجد، وكيف جمع هذه النجاحات لشخص واحد وبجهود ذاتية، ليكون نبراسا لجيلنا نحو مزيد من الأمجاد.

ومنذ أن توفي غازي -رحمه الله- قبل ست سنوات وأنا أتأمل الكثير من عبقرياته وموسوعيته في شتى مسالكه العلمية والعملية، ومنتجاته الوظيفية والفكرية، وكلما تعمقت أكثر في تراثه وأعماله، زاد إعجابي بقدراته وأخلاقياته، ونجاحاته ونزاهاته، ومع أنه لاقى الكثير من المغريات والعوائق والصدمات في مسيرة حياته، إلا أنه لم يسقط ولم ييأس، ولم يفتر، فقام من بعد كل مرة من جديد، وبشكل يعد ليس له من مثيل، فهو مع الكبير كبير كالباب، ومع الصغير متواضع الجناب، ومع الأعداء غازٍ كالناب، لا يعرف الكلل، ولا ينتظر الملل، فهو أسرع من أن تصله السهام، وأعلى من أن تناله اللئام، وأعمق من أن يغوص معه ذوو الكلام، فما أحوجنا لعودتك يا أبا يارا، جعل الله قبرك روضة من رياض الجنة وعوضنا خيرا.