القصة الرمزية التي ذُكرت في مقالة الأسبوع الماضي حول الصعوبات اليومية التي تواجهها مبتعثة ما في أمريكا كانت تهدف إلى تسليط الضوء فقط على تفاصيل ربما غابت حتى عن بعض من مرّوا بتجربة الابتعاث أنفسهم. ووراء هذا الهدف المباشر لم تكن هناك محاولة لاستخدام القصة في دعم فكرةٍ ما أو تمهيد مشروعٍ معين. إنها مجرد قصة (خام) يمكن طرقها وسحبها وتكريرها وتفسيرها بعشرات الوسائل لتتحول إلى دليل على تلك الحجة أو مثال على ذلك الرأي. وقد كشفت أغلب تعليقات القراء الكرام قابلية هذا التوظيف المتعدد في تعليقاتهم عندما تمكنوا من زرعها في صميم أكثر من قضية جدلية قائمة حول برنامج الابتعاث، بل وتجاوز بعضهم برنامج الابتعاث ذلك إلى قضايا أوسع مثل العلاقات الزوجية، والمساواة بين الجنسين، والفروقات الاجتماعية بين بلدين، وغيرها.

من المثير للاهتمام أن هذه التوظيفات المتنوعة والجدل التراكميّ يثيرها ويحركها مجرد تسليط بسيط للضوء على واحد من تفاصيل الابتعاث اليومية، مما يدلل على أن هذا المشروع الهائل يشغل مساحة جدلية يعتدّ بها في الشأن الاجتماعي، وبالتالي، ونسبة إلى حجم أثره أيضاً، فهو بحاجة ماسّة إلى حزمة من التنظير الاجتماعي والثقافي لفهمه في سياقه الحضاري الذي جاء فيه. أقول ذلك لأني على (شبه يقين) يحتاج فقط إلى دراسة منهجية ليتحول إلى يقين كامل، أن برنامج الابتعاث هو واحد من أجرأ مشاريع التنمية في السعودية منذ السماح للشركات الأمريكية بالتنقيب عن النفط عام 1933م، ورغم ذلك فإن الدراسات المطروحة حوله نادرة جداً إن لم تكن معدومة.

من نافلة القول إذن أن نبرهن على أهمية برنامج الابتعاث وتأثيره الحضاري والاجتماعي والثقافي ونحن نزجّ بمئات الآلاف من رجال الوطن ونسائه دفعة واحدة لأزمنة مطوّلة في مجتمعات مختلفة. ومن نافلة القول أن نذكر أن الابتعاث أصبح فرداً من كل أسرة سعودية تحدّث به نفسها، أو تعهد إليه بأبنائها، أو تستعيذ بالله منه. ومن نافلة القول أن نقول إن مصيرية الابتعاث بالنسبة للفرد لا تقل أهميتها عن مصيريتها بالنسبة للمجتمع، إلا أنه رغم هذه الأهمية نجد أن التكهنات العشوائية والتصورات المغلوطة والتعميمات المسطّحة حوله قد بلغت حداً فانتازياً غريباً، حتى إن هذه القصة المبسّطة للمبتعثة عكست بعض التعليقات عليها حدّين متناقضين: حدٌّ يجزم بواقعية القصة وتشابهها حد التطابق مع تجارب حيّة، وحدٌّ يجدها قصة غير واقعية وتصف حال المبتعثين بمبالغة سينمائية. وبالتأكيد أن وجود التعليقين معاً تحت مقالة واحدة، وبعضها صادر من مبتعثين سابقين وحاليين، يدلل بوضوح على أن الصورة غير واضحة، أو في أفضل الأحوال غير متفق عليها. ومن هنا يكون تسليط الضوء بشكل سرديّ على جانب واحد من تفاصيل الحياة اليومية للمبتعثة هو بحد ذاته هدفٌ مبرر لنشر القصة، لعله يكشف لنا بشكل عمليّ كم نحن محدودون في فهم التصورات العامة حول الابتعاث بقدر ما نحن معتدّون بتصوراتنا الشخصية حوله.

الحقيقة، أن اتهام القصة بالمبالغة متوقع ولكنه غير مبرر، فمشروع الابتعاث استهدف شرائح مختلفة من المجتمع، وابتعثهم لأصقاع متباعدة من العالم، للانخراط في برامج أكاديمية متفاوتة في الجهد. مئات الآلاف من المبتعثين، عشرات الدول، عشرات التخصصات، مئات الجامعات. إنّ عدد المتغيّرات التي يمكن حشوها في هذه المعادلة هائلٌ جداً، وبالتالي فإن النتائج المحتملة لها لا يمكن حصرها. ومثلما أن المبتعثين يختلفون في منطلقاتهم الشخصية، وقدراتهم الاستيعابية، وتفصيلاتهم اليومية، وطموحاتهم الحياتية، فهم أيضاً يختلفون في خلفياتهم الثقافية، ورؤاهم الأخلاقية، وامتداداتهم العائلية، وانفعالاتهم الأيديولوجية. ولنضع كل هذا الخليط من الاحتمالات فوق خليط آخر تشكله تجربتهم الابتعاثية في دول ومجتمعات وجامعات وتقاطعات كبرى بين التاريخ والجغرافيا والثقافة والسياسة. هل يمكن بعد هذا كله أن يجزم مبتعث أو مبتعثة أن تجربته الابتعاثية الخاصة، في دولة واحدة، بين جامعة أو جامعتين، لبضع سنوات قصيرة، مع بعض الفسح السياحية من حين لآخر، والاختلاط العابر مع زملاء وغرباء، يمكن أن تمنحه قدرة كافية على تحديد كل النتائج المحتملة للمعادلة الهائلة أعلاه بدقة، مما يؤهله لدحض واقعية القصة أو تفنيدها؟

قد يمرّ مبتعثان بنفس الظروف حد التطابق. يقيمان في شقة واحدة، ويدرسان في نفس الجامعة، ويتقاضيان نفس المكافأة، ويسلكان نفس المسار الأكاديمي، ثم ينتهي أحدهما إلى تصور مختلف تماماً عن الآخر حول ماهية تجربة الابتعاث، وكيف يمكن اختزالها في قصة أو مقالة. فكيف إذن سيتفق مبتعثو أمريكا مع مبتعثي الهند؟ وكيف سيتفق مبتعثو فرنسا مع مبتعثي مصر؟ وكيف سيتفق المبتعث الأعزب مع المبتعث المتزوج؟ وكيف سيتفق مبتعث اللغة ذو الثمانية عشر ربيعاً مع مبتعث الزمالة الطبية ذي الثلاث والثلاثين سنة؟ وكيف ستتفق المبتعثة التي يرافقها أبوها مع المبتعثة التي يرافقها زوج وأربعة أطفال؟ وكيف سيتفق المبتعث الذي يقتطع من مكافأته شيئاً للأهل أو للمستقبل، والمبتعث الذي يفيض عليه من السعودية دخلٌ إضافي فوق مكافأة الابتعاث؟ كيف يتفق المبتعث الذي هو سليل أبوين مبتعثين منذ السبعينات، مع المبتعث الذي لم ير مطاراً من قبل سوى عبر بوابة وزارة التعليم العالي؟ وكيف سيتفق المبتعث الذي يدرس قدراتٍ تحصيلية محدودة مع الذي حباه الله بحذق يسهّل عليه التحصيل الجامعي؟ وكيف ستتفق المبتعثة التي تملك قدرة نفسية على تحمل الكدح اليوميّ مع تلك التي، مهما اجتهدت، تفتك بها المخاوف دائماً وتهزّ ثقتها بنفسها؟

وإذا لم يتمكن المبتعثون أنفسهم من الإحاطة بكل الحالات الممكن تفرعها من الابتعاث، فكيف سيحيط بها بقية المجتمع ممن يسمع ولا يرى؟ ويقرأ ولا يسافر؟ ويتأمل ولا يتفاعل؟ هذه القصة المبسّطة تطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب عليه. يخبرنا من يتفق معها أنه لم يتمكن من توثيقها كما ينبغي، ويخبرنا من اختلف معها أنه لم يتمكن من تصوّرها كما وقعت. الأول جرّب ولم يخبر، والثاني أخبر ولم يجرّب. القصة إذن، في هدفها المباشر، أرادت أن تسلط الضوء على قصور التصورات إزاء أهمية المشروع، وتهافت الجدل إزاء غياب التحليل. باختصار، كل ما نعرفه عن الابتعاث حتى الآن هو مجموعة مشتتة من التصورات الشخصية لم يجمعها كتاب، ولم تفحصها دراسة، ولم يتناولها حتى عمل أدبيّ أو فنّي. هذا لا يعني أن مشروع الابتعاث سيفشل، أو أن موازين المجتمع ستختل بسبب هذا القصور، ولكنه يعني أن فائدة نوعيّة كبرى كنا سنضيفها إلى فوائد الابتعاث لو وضعناه قليلاً تحت مجهر الفحص.