كنّا نطلق على أحد الأصدقاء (أبو عكسيات)، فكلما اتفقنا على شيء قال لنا (بالعكس)، ثم أتى برأي جديد مخالف لنا تماماً، فحين نقول له إن فلاناً مبدع وأحق بالوصول إلى هذا المكان، قال لنا (بالعكس): هو إنسان فاشل ولولا مسح الجوخ لما وصل، وحين نقول له إن سفارتنا الفلانية سيئة جداً في تعاملها مع المراجعين، قال لنا (بالعكس) إنها رائعة جداً وتقدم خدمات متقدمة للمواطنين، مع أنه لم يراجعها ولم يتعامل مع أحد من موظفيها أبداً، وعندما يقول له أحدنا: إن من المفترض أن يزيدوا في رواتبنا مع زيادة التضخم وارتفاع الأسعار، قال لنا (بالعكس) رواتبنا تكفي وفوق الحاجة، مع العلم أنه إلى الآن مدين لبعض الأصدقاء ويعيش الحياة بطريقة عصامية!

وبصراحة حيرني ذلك الصديق فلم أستطع تفسير حالته، فهناك من يقول إنه يفعل ذلك من أجل الإثارة ولفت الانتباه، وثمة من يراه متفرداً ومنعتقاً من سيطرة السائد، طالما أنه قادر على الجهر بآرائه وعدم إنكارها، وما دام أنه قادر على تبرير قناعاته والدفاع عنها بشكل منطقي، لكنهم في بعض الحالات يصابون بالخيبة حين تأتي المخالفة لمجرد السباحة عكس التيار وبطريقة التجديف على الرمال.

لا أجد أشبه بهذا الصديق من الزميل العزيز في صحيفة "الوطن" الدكتور علي الموسى، فعلى الرغم من أنه كاتب من طراز رفيع ومن المؤثرين في صناعة الرأي وتوجيهه، إلا أنه لا يخلو من صفة المخالفة والسباحة عكس التيار أحياناً، إلى درجة أن الرأي عنده قد ينقلب إلى حالة من الوجدانيات الخاصة، فإن ذهب الناس يميناً ذهب شمالاً، وإن أقروا شيئاً أنكره، وإن أنكروه أقره، فعندما طالب الناس بزيادة رواتبهم قبل سنوات كتب أنه ضد الحملة على اعتبار أن رأيه متطابق "مع عشرة من رجال الاقتصاد المتخصصين لا مع هذه الملايين الهادرة بلا نظرية أو قانون اقتصادي"، وفي الوقت الذي يحبس به العالم أنفاسه خوفاً من أن يصل إلى البيت الأبيض سياسي أحمق مثل: (دونالد ترامب) كتب علي الموسى أنه مع (ترامب)!، وحين تشكل رأي عام – حقاً كان أم باطلاً - حول قيادة المرأة للسيارة أنكر الزميل أهمية هذه القضية وسخَّفها وقال: "لماذا أنشغل بقصة عشر نساء على أقصى الاحتمالات يقدن السيارة في شوارع مدينتي، وما الكارثة التي ستحدث؟".

ولعل آخر معارضات العزيز مقالته قبل أيام قليلة عن سفيرنا الرائع في العراق ثامر السبهان والتي قال له فيها: "أرسلناك لكي (تجحفل) إيران في نهاية المباراة، فإذا بالأخيرة تصعقنا بهدف من أول دقيقة"، فبدا الزميل بهذا الرأي كما لو أنه لا يدري أن الحملة على السبهان قد انطلقت من بداية تعيينه سفيراً في العراق، وقبل أن يبدأ مهام عمله، ولا علاقة لها بتصريحاته أو مواقفه، فضلاً عن أن هذا الكلام لا يجوز قوله من ناحية العمل الدعائي والحرب النفسية، ولما فيه من تأكيد لادعاءات الميليشيات الموالية لإيران من أن سفيرنا هناك يتدخل في الشأن الداخلي للعراق، وإنه لا أبلغ من شهادة تأتي من أهلها، فنحن ندرك جميعاً حساسية الوضع في العراق، وأنه بحاجة إلى تعامل من نوع خاص، حيث إن سفيرنا هناك مطالب بأن يتحدث إلى الشعب العراقي مباشرة، بدلاً من الرفع بما يراه في "ظرف سري مغلق" إلى حكومة الظل في بغداد والتي نعرف جميعاً تاريخها ومواقفها، ومن أين أتت وإلى أي حزب تعود، فلا أدري لماذا يحرِّم الزميل على سفيرنا في العراق ما هو حلال للسفراء من كل جنس؛ بذريعة أن ذلك يتناقض مع أعراف وتقاليد الدبلوماسية السعودية! ولا أعرف لماذا التعامل بمثالية شديدة مع العرف الدبلوماسي في بلد يعرف العالم كله أنه بلا سيادة ومستباح من أقصاه إلى أقصاه، فالدبلوماسية ليست قوالب جاهزة يحفظها السفراء عن ظهر قلب فيمارسونها في كل مكان بذات الطريقة، إنما هي مرنة تضيق وتتسع بحسب الحال والظرف والواقع.

قلت سابقاً وسأكرر القول الآن إنني من قراء الكاتب الجميل علي الموسى ومن المنتفعين بما يكتب، لكن حبي له وإعجابي بما يكتب لا يمنعاني من أن أقول رأيي فيه، وأرجو ألا يفهم القارئ الكريم أنني أنكر على الزميل العزيز حقه في التعبير عن رأيه عندما يكون مخالفاً للسائد، أو أنني أدعوه لأن يكون نسخة طبق الأصل عن غيره، بل أعتقد أن السر في جاذبيته وقوة تأثيره هو حرصه الدائم على الإتيان برأي جديد، ورؤيته للأشياء من جهات مهملة لا يُفطَن إليها في الغالب، ومن زوايا معتمة يصعب النظر من خلالها، ولذلك تأتي آراؤه صادمة أحياناً، ومثيرة محفزة في بعض الأحيان، بما يعني أنها قد تفتح في ذهن القارئ آفاقاً بعيدة ومسارات جديدة، لكن ربما فات على الزميل أن المخالفة لأجل المخالفة ليست رأياً مثلما أن الموافقة لأجل الموافقة عراء، وإنه لا شيء أضر بالرأي من أن يتحول إلى حالة من الاصطفاف الموجه والاستعراض والفزعة بطريقة (شرايكم فيني).