كنت أتحدث هاتفيا مع أحد الأكاديميين الجالسين على كرسي الإدارة سابقا، ولاحقا في إحدى الجامعات السعودية، حول موضوع قرار معلق منذ فترة فاستنشق الرجل كمية من الأكسجين خلت معها أنه سيمتصني إلى الطرف الآخر من الهاتف، وأعقبها بزفرة خيل لي أنها تجتث ما وقع عليه نظري من ممتلكاتي المتناثرة على سطح مكتبي!

خير يا دكتور! إيش القصة؟ بادرته بهذا السؤال رحمة بشهيق سعادته وزفيره! قال نحن دائما ننشغل بالأعمال الإدارية في هذا الوقت من العام! تخيل (والكلام لسعادته) أنني أتعامل مع جداول آلاف الطلاب تنسيقا وإعدادا واختيارا للشعب وتنظيما للأوقات وتقديما وتأخيرا للمواعيد وإحلالا للأساتذة الذين يقومون بتدريس المواد وغيرها كثير.. "يا رجل أنا ما أخرج إلا العصر"!

ثم انطلق بحماس وقوده الاستياء يقول: إن العمل الإداري عمل شاق ومتعب ومن ولجه من بابه فإنه يوشك أن يخرج من نافذته، أو نحوا من ذلك!

قلت ربنا يعينك إن شاء الله، ولم أشاء أن أزيد من تعاسة صاحبي بسؤاله عما آل إليه موضوعنا، فالرجل مشغول إلى "أزارير ياقته"، كما يقول المثل الشعبي!

ومثل صاحبنا من الإداريين الذين يقومون بأعمال مشابهة خلق كثير يمتدون على مساحات شاسعة من القطاعات الحكومية التعليمية تحديدا وغير التعليمية بالإجمال. كلهم "يشكي فنوشك أن نبكي"!

هنا وأمام مشاهد من هذا النوع المألوف والمتكرر تبرز مشكلة عامة ويتبادر إلى الشفاه تساؤل وربما تساؤلات ويتحدث المنطق في نهاية المشهد!

فالمشكلة أن كثيرا من الإداريين ما زال يشتكي من كثرة العمل وضغط الوقت والإمكانات وشح الموارد المخصصة للتحرك بحرية أكبر في مساحة ضيقة! هكذا يدعي الكثير من أصحاب كراسي الإدارة، وهكذا يظهرون امتعاضهم وانزعاجهم وتذمرهم من المواقع التي يقومون فيها على باقي زملائهم كقياديين ومديري عموم أو خصوص! هؤلاء يرون أن أغلال الواقع تحد من آمالهم وتحجم أحلامهم وتطلعاتهم.

ومع فكر من هذا النوع تبرز الأسئلة الحيرى لهذا النوع من المديرين حتى لا تكاد الأسئلة تنقضي، فلعلي في هذا المقام أن أتساءل مع المتسائلين عما يلي:

- ألستم معاشر المديرين (من أصحاب هذا التوجه) منزعجين من حجم العمل وضغوطاته؟ إذاً لماذا تقدم بعضكم بل وربما زاحم وقاتل للوصول إلى هذا الكرسي؟

- هل تذكر بعضكم قوله بقصد أو بدون قصد أنه يرى الموقع الإداري تكليفا لا تشريفا؟ فإن كان كذلك، فكيف يتأفف من قال بهذا وهو يقر بالتكليف و(الكلافة والكلفة) مسبقا؟

- سؤال آخر: هل بعض المتشكين من المديرين فكروا قليلا في ترك مواقعهم المتعبة مباشرة في أول فرصة سانحة: مثلا عند انتهاء مدد تكليفهم أو طلب الإعفاء عند إحساسهم بالعجز عن الوفاء بالتزامات المنصب؟ أم أنهم بادروا للتجديد والوعد بالتغيير والتطوير ثم عادوا لأسطوانة التشكي أمام المرؤوسين؟

- سؤال أخير: هل باتت الإدارة (ذلك الاسم المهيب) في نظر ممن هم على شاكلة هؤلاء الإداريين مجرد توقيع أوراق وتوزيع جداول وطباعة تعليمات روتينية، وإعادة تدوير تعاميم سابقة، لينتهي بهم الحال إلى التذمر من هذه الأعمال ذات الطابع السكرتاري، ووصفها بالعمل الإداري المنهك والممل؟

المنطق سيجيب بتقديري على جزء من هذه الأسئلة والمعضلة (الفكرية) بالقول إن الإدارة ليست كرسيا يتكئ عليه أحدهم لينال ويقتص مما يقوم به من فروض وواجبات معلومة لديه سلفا.

الإدارة أيضا (وبحسبة منطقية) حينما تساق إلى أحدهم (ويقبل بها) فهي أيضا ليست مرمى لانزعاجه المتكرر وتذمره الممتد، فمن قبل بأمر وجب عليه الوفاء بالتزاماته أو تركه لمن يجد في فكره ووقته متسعا لذلك.

كذلك فإن المنطق يأبى أن يغادر قبل أن يقر بحقيقة لا مفر منها، وهي أن العمل الإداري (الذي قبلت به) يجب أن يأخذ صفة الإنجاز والإلهام، فحين أؤدي عملي في وقته وأنجزه بعبقرية ملفتة فأنا أقوم بتسديد دين مستحق ومعلوم سلفا، ولا يلزم مع هذا الإنجاز سوى الانتشاء بإكماله كما يجب، والسعادة بما يحمله الغد من فروض وواجبات مشابهة أو مختلفة.