سأتفق مع الذين سخروا من مؤتمر الشيشان وقللوا من أهميته، سواء من حيث بيانه الختامي، أو من حيث مكان انعقاده ونوعية بعض المشاركين فيه، وسأقف إلى صفهم فيما لو قالوا: إنه على الرغم من أن الهدف من انعقاد المؤتمر -كما يزعمون- هو الحزن على أحوال الأمة وتفرقها وانقسامها والسعي إلى الوحدة ورأب الصدع إلا أنهم قد ضاعفوا من جراحات الأمة وزادوا من انقسامها وتشتتها وفرقتها حتى ما عاد المسلمون بعد هذا المؤتمر كما كانوا قبله، فهم قد عقدوا هذا المؤتمر تحت مظلة حاكم الشيشان رمضان قاديروف المعروف بولائه التام لروسيا، والتي هي الداعم الأكبر للطاغية بشار الأسد في جرائمه ضد الأطفال والنساء والعجائز في سورية، مستخدمة في ذلك كافة أنواع الأسلحة المحرمة وغير المحرمة، ولها تاريخ طويل في العداء وغزو بلاد المسلمين، لذا لم يكن مفاجئا أن يخلو بيان المؤتمر الختامي من الإشارة إلى أي نوع من الإدانة لمذابح روسيا وإيران، وهما الدولتان المتسببتان في كل ما لحق ببلاد العرب من القتل والتخريب والدمار، كما أن للبعض الحق في أن ينزعجوا من إقصائهم وتجاهلهم في التصنيف الذي أحدثه المؤتمرون حول تحديدهم للفرق الداخلة في أهل السنة والجماعة. وسأعذرهم كذلك فيما لو شككوا في الهدف من انعقاد هذا المؤتمر، وقالوا إنه يتآمر عليهم من أجل إقصائهم، ومحاولة إلصاق التطرف بهم، بتصوير أنهم مشاركون في نشأة جماعات متطرفة كداعش والقاعدة وجبهة النصرة، سأبصم لهم بالعشرة على كل ما ذُكر أعلاه، لكن، هل من الحكمة أن نتوقف عند هذه النقطة فلا نتجاوزها إلى ما هو أنفع من اللطم واللوم والتخوين؟ ولماذا يجد هذا المؤتمر دعما ومؤازرة وقبولا قليلا كان أو كثيرا من البعض؟ وماذا سيكون الحال فيما لو أُسنِدت إلى المعارضين مهمة الإجابة على ذات السؤال: من هم أهل السنة والجماعة؟ كم عدد من سيدخلونهم في هذا التصنيف، وكم عدد من سيخرجونهم؟! ثم لنقارن بعد ذلك بين ما خرج به المؤتمرون في غروزني وما سيخرج به هؤلاء، فإن كان تصنيف المعارضين سيدخل عددا من المسلمين في هذا التصنيف أكبر مما خرج به مؤتمر الشيشان، فإن لهم الحق في كل ما قالوه عن ذلك المؤتمر، أما إذا كان تصنيفهم سيُخرِج من السنة عددا أكبر مما خرج به مؤتمر الشيشان، فلا حق لهم في نقد ذلك المؤتمر إلا من حيث رعايته ومكان انعقاده وعند ذاك لن أجد ما أصف به ما حدث من خلاف بين المؤيدين والمعارضين لمؤتمر الشيشان سوى أنه إقصاء قابله إقصاء وتبديع قابله تبديع.

على الرغم من أن مؤتمر الشيشان مشبوه ومثير للجدل إلا أنه يمكننا أن نستخلص منه بعض الجوانب الإيجابية، بالإضافة إلى الجوانب السلبية، فهو يبعث لأي طائفة مهما كانت جماهيريتها وأتباعها برسائل واضحة وخطيرة عن إمكانية انفضاض الناس من حولها والبحث عن بدائل ومرجعيات أخرى قادرة على تقديم الإسلام بصورة تليق بنقائه وبياضه وعدله ورحمته؛ فالناس سيبتعدون حتما متى ما أحسوا بانحراف ظاهر للدين عن مساره الصحيح؛ وعندما يصبح الدين قيدا تتوسع فيه دائرة المحرمات وتضيق فيه دائرة المباحات، وتمارَس فيه الوصاية على الناس باسم هدايتهم والخوف عليهم، فمتى ما شعر الإنسان أن ملامح دينه قد طمست، وسماحته قد اندرست، فإنه قطعا سيبحث عن جهة أخرى تعيد له دينه الذي يألف، وسماحته التي يعرف، وفطرته التي جُبِل عليها، فالمسلم في النهاية يبحث عمن هو قادر على أن يقدم له دينا وسطيا معتدلا قائما على أساس الفطرة والتعايش والعدل والرحمة والمساواة والتسامح، دين لا يُتخَذ سوطا في جلد الناس والوصاية عليهم، بل يحترم خياراتهم وعقولهم وخصوصياتهم، يكفيه من الإنسان ليحكم له بالإسلام أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم لا تعنيه بعد ذلك التفاصيل والخلافات الدقيقة بين طوائف المسلمين، ولا يهمه إن كان سلفيا أو أشعريا أو ماتريديا، ما دام أنه مسلم مقيم لأركان الإسلام الخمسة، فهو يدرك تماما أن هذه الاختلافات كانت موجودة ولم تحسم، وستبقى ولن تحسم إلى قيام الساعة؛ ما دام أنها مبنية على أساس التأويل والاجتهاد المثاب عليه في حال الخطأ أو الصواب.

إن من الواجب علينا –نحن السعوديون- أن ندرك أن روحانية المكان وطهارة الأرض ليست كل شيء في مجال إقناع الناس وجذبهم، كما أن منبري الحرمين الشريفين يجب أن يستخدما في تقديم خطاب اسلامي عالمي يجمع الأمة ويسعى إلى وحدتها ولم شملها لأنهما موجهان إلى مليار ونصف المليار مسلم حول العالم!

ولا أنسى أن أحمد إلى هيئة كبار العلماء في السعودية ردها الأخير على مؤتمر الشيشان والذي كان موفقا بدرجة كبيرة، متمنيا من الجميع أن يحذوا حذوها في استشعار معنى أن تكون بلادنا مهبط الوحي ومنبع الرسالة ومحط أنظار المسلمين، وأظن أننا إذا لم ننتبه إلى أنفسنا ونبرز علماءنا المعتدلين -وما أكثرهم-  ونقصي كل من فيه بذرة تطرف، من أجل أن ننشر إسلاما وسطيا شعاره "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، على أن يبقى الخلاف محصورا في محاضن الفكر والحوزات العلمية، فإني أخشى أن يتجاوزنا الزمن ولا نفطن إلى أنفسنا إلا بعد أن يكون التاريخ قد قال كلمته!