كثير من الموظفين في سائر مواقع العمل الخاص والحكومي، يواجهون أعمالا كثيرة، ومسؤوليات جسيمة، ومراجعين ذوي مشارب مختلفة، وعقول متفاوتة، وحاجات متنوعة، وربما يواجهون استفزازات ومنغصات، وعدم تقدير، سواء من بعض مديريهم أو مراجعيهم، مما يصيب بعضهم بضغوطات كثيرة، قد تنعكس سلبا على عملهم ونفسياتهم، فهم كغيرهم من البشر، يتأثرون بما يُكدّر، وكونهم يقومون بعمل يتقاضون عليه راتبا، لا يعني أن يُقَابَلُوا بالفظاظة وسياسة التطفيش، ثم بعد ذلك يُطالبهم مديروهم ومراجعوهم، بانشراح الصدر، وإنجاز العمل، وألا تضيق صدورهم بما يسمعون ويواجهون.
هذه مثاليات ربما لا يستطيع قائلوها تطبيقها على أنفسهم، والواقع أن ضيق الصدر قد يصيب كل من أوذي بغير حق، سواء كان موظفا أو غير موظف، لكنه يؤمر بالصبر والاحتساب، فهم ليسوا خيرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد ضاق صدره عليه الصلاة والسلام بما يقال له من أذية، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ)، وقال تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون).
والبعض هداهم الله يظنون أن شُكْرَ الموظف يقلل عطاءه، وربما قالوا: لماذا نشكره؟ هو قام بواجبه! والقاعدة تقول: لا شكر على واجب. ولا أدري من أين جاؤوا بهذه القاعدة الخاطئة؟ ومن الذي اخترعها؟
والصواب أنه: يُشْكَر من قام بالواجب، وكون الموظف أو مُقدِم الخدمة يقولها جوابا لمن يشكره، من باب التواضع والاحتساب واللطف أمرٌ متفهم، لكن قولها للموظف فيه غلظة وفظاظة ومخالفة.
لماذا لا يُشكر؟ وقد جاء في الحديث (لا يشكر الله، من لا يشكر الناس) وأول من يستحق الشكر، هو من قام بالواجب، وها هي الدولة وفقها الله تكرم وتشكر الشهداء الذين قاموا بالواجب، وإن كانت هذه وظيفتهم وواجبهم. بل إن الله سبحانه وتعالى أوجب علينا طاعته، وإذا فعلنا الواجب شكرنا، كما في قوله تعالى (وكان سعيكم مشكورا).
ولما قام أيوب عليه السلام، بواجب الصبر، شكره الله وأثنى عليه بقوله (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب)، فهل يوجد شكر وثناء أحسن من قول الله (نعم العبد).
قال ابن سعدي في تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) قال: دلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة، أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة، التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له في الأعمال والأقوال، وأنه جازى بها خواص خلقه، وسألوها منه، كما قال إبراهيم عليه السلام: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين).
وفي هذا المقال أبعث بثلاث رسائل:
الأولى: لمديري أولئك الموظفين ورؤسائهم: أقول لهم لا يغب عن بالكم -وفقكم الله- أن من رفق بمن تحت يده رفق الله به، ومن شدد عليهم شدد الله عليه، وأن الكلمة الطيبة، والتشجيع المناسب، وتحمل ما يقع من أخطاء الموظفين غير المقصودة، والمشاركة بروح الفريق لإصلاحها، دون همز ولمز، وإشعاره أن من يعمل سيخطئ، وأنه إن أخطأ مرة فقد أصاب مئات المرات، هذا له أعظم الأثر في نفسية الموظف، وسينعكس إيجابا على أدائه، ولا تظن أيها المدير أنك بتعاونك وتواضعك وتحفيزك للموظفين تحت إدارتك، تنقص من مكانتك وشخصيتك، وأن الغلظة والفظاظة، ومنع الحوافز، ووضع الحواجز، ترفع مكانتك، ليس الأمر كما ظننت وتوهمت، بل الرفعة إنما تكون بالتواضع وتقدير الموظفين وتحفيزهم، وإيجاد بيئة جاذبة مُحَفّزة تجعل من تحت إدارتك يحبون العمل، ويتفانون في الإنجاز، وأما الفظاظة فهي سبب للنفرة، كما قال تعالى (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) فكما ترى -أخي القارئ- النتيجة حتمية، الفظاظة سبب للنفور، حتى لو صدر ذلك من خير البشر.
الثانية: للمراجعين، أقول لهم: رحم الله من أعان إخوانه الموظفين على خدمته بكل يسر وسهولة، إياك أيها المراجع إساءة الظن بالموظف، ولا تكلفه ما لا يطيق، له صلاحيات لا يستطيع تجاوزها، وقد يكون واجه ما كدر خاطره، وشوش فكره، فترفق به، وخاطبه بالكلمة اللينة، والأسلوب الحسن.
الثالثة: للموظف، احتسب الأجر، وبغض النظر عن الرواتب والحوافز، هناك أمر لا يغيب عن بالك، وهو أنك في عبادة، قد يكون هذا العمل سببا لدخولك الجنة.
أما علمت أن بغيا -أي: زانية- غفر الله لها، بسبب أنها أنهت معاناة كلب، كان يأكل الثرى من العطش، فسقته، كما جاء ذلك في صحيح مسلم.
لاحظ أن المخدوم كلب، والكلب نجس إذا ولغ في إناء أحدنا يغسله سبعا إحداهن بالتراب، ومع ذلك كانت (مغفرة الله) جزاء الإحسان إليه كما ترى.
فكيف بمساعدة البشر وخدمتهم؟ وكيف إذا كان هؤلاء البشر من أهل الإسلام؟ لا ريب أن ذلك أعظم أجرا، وأحسن عاقبة.
فضع نصب عينيك الاحتساب، فإنك لا تدري ما الحسنة التي تكون سببا في دخولك الجنة.
وإذا كان غيرك يعمل أقل من عملك، ويكافأ أكثر منك، فلا يَفُتّ ذلك في عضدك، فقد يكون جزاؤك الجنة، خير من الدنيا وما عليها، وما عند الله خير وأبقى.