منذ صدر كتيب "الحداثة في ميزان الإسلام" للشيخ عوض القرني وحتى صدور كتاب "الهوية والقومية والحداثة" للكاتب الفلسطيني سلامة كيلة في 2015 -عن دار نون- نحتاج إلى طرح الكثير من الأسئلة والتوقف الطويل: ما الذي حدث في هذا المنعطف الذي مرت به مجتمعاتنا –ذهنياً- ما الذي تم تمريره، وما الذي مُرر لنا، وما الذي تبدو عليه الحداثة اليوم؟ وأقصد هنا حداثة الفكر والمثقف والسياقات الثقافية في منطقتنا وفي حياتنا وفي المنعطفات المتغيرة التي مر بها المجتمع منذ صدور ذلك الكتيب وإن كانت هناك إرهاصات كثيرة تمس الحداثة قبله، ولكنه هنا يعتبر مرحلة صفقت لها الجموع المحتشدة آنذاك ضد أي فكر حداثي على كافة المستويات حتى وإن كان على مستوى الشعر والأدب وما طال شعراء الحداثة وقتها.

لم يرتق مفهوم الحداثة إلى منطقة الوعي بها أكثر من مراوحته في الاختلاف على مستوى الفكر والتناقض والإبقاء على التمزق المعرفي، الأمر الذي أضاع المعنى الحقيقي لمفهوم التحديث والحداثة بحيث ظل مفهوم الحداثة مفهوما مربكاً وغامضاً إلى الحد الذي ظهر فيه أصحاب الفكر الحداثي مجرد أشخاص مشبوهين وغير مرحب بهم، وباتت كلمة "حداثة" وما زالت أشبه بمسبة صارمة لا يتردد أي مجتمع تقليدي من الجانب المقابل بوصمهم بها.

تعثرت الحداثة في عمقها الحقيقي وظلت شكلاً بلا روح، وبلا مقومات حياة، وما زالت تكافح منذ قرن من الزمان ضد المعوقات التقليدية والبنى وبدت كواقع قائم يصعب تجنبه عوضا عن هدمه، وحسب سلامة كيلة في الهوية القومية والحداثة "فإن تمرير الحداثة على أرض الواقع اصطدم بمعوقات شتى، ليس فقط بسبب تكلّس البنى التقليدية في المجتمعات، بل لأن حمَلة المشروع أنفسهم، أشخاصاً وفئات ومؤسسات وأنظمة حكم، كانت تظهر عليهم أعراض ما دون حداثية".

مر وقت على كتيب "الحداثة في ميزان الإسلام" وسقط الكتيب وغاب في دهاليز الوقت، ولكن واقعا ظل التقليديون والمنغلقون فكريا يجولون في مساحات العقول والسياقات الثقافية، يحملون بذرة الفكر ذاته وبأسماء مختلفة وطرق عديدة وتسللت البذرة إلى كل ما يمس العقل الجمعي، بل نمت وتفرعت في كتب الناشئة في التسجيلات الصوتية في أنماط الحياة بدءا من الملابس والوجوه والحراك المجتمعي وانتهاء بالمساجد والأنشطة المجتمعية. وعميقا غاصت الفكرة في قلب المؤسسات التعليمية واكتسحت الإنسان في صميم حياته زمنا طويلا، واستفاق الجميع اليوم على انتماءات غريبة الأطوار، وأشخاص كانوا ينتمون لنا وباتوا غرباء في فكرهم ومنهجهم، وانقسم الجمع فرقاً ينتمي كل إلى فكره حتى أولئك الذين تبنوا الحداثة باعتبارها موجهاً وسفينة معاصرة للنجاة إلى حياة فكرية وثقافية مختلفة هم أنفسهم لم يمتلكوا القوة ولا الأدوات التي تحميهم من الآخر، والآخر هنا هو البقية العظمى من المجتمعات التي قد تقاتل بشراسة في سبيل فكرة.