جوزيف شومبيتر، الذي يعد من أبرز اقتصاديي القرن العشرين، ألّف كتابا موسوعيا عام 1954 في أكثر من 1200 صفحة، بعنوان (تاريخ التحليل الاقتصادي)، تناول خلاله تاريخ الفكر الاقتصادي منذ أيام الإغريق والرومان (كأفلاطون وأرسطو) وحتى منتصف القرن العشرين. هذا الكتاب الضخم الذي يعتبر مرجعا لا غنى عنه عند الباحث المعاصر، يوحي إليك حجمه بأنه لم يترك شاردة أو واردة من إسهامات العلماء عبر التاريخ في علم الاقتصاد إلا ذكر شيئا منها أو نوه إليها، ولكن المفاجأة هي أنه عندما انتهى من ذكر إضافات عصر الرومان حول مفهوم الأسعار والقيمة، استهل الفصل الثاني بعنوان: (الفجوة العظيمة)، ثم قفز مباشرة إلى مفكري القرن الثالث عشر الميلادي في أوروبا!

يدّعي شومبيتر بأن علم الاقتصاد شهد (فجوة) فكرية وخمولا شديدا على مدى 500 عام منذ نهاية عصر الرومان، وحتى بداية عصور التنوير في أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي، وأنه لا يوجد خلال هذه الفجوة التاريخية ما يستحق الذكر في المجال الاقتصادي، وبالتالي فإن القفز عليها وتجاوزها له ما يبرره.. هكذا وبكل وبساطة، يُنحّي شومبيتر فترة توهج الحضارة الإسلامية، ويتجاهل إسهامات علمائها الاقتصادية بشكل صارخ، وهو أمر يتكرر كثيرا عند مؤرخي الغرب الذين يعتبرون أوروبا مركز العالم. ويعممون تجربة عصور الظلام الأوروبية وكأنها شملت الكوكب كله، رغم أن عدد سكان أوروبا في عصور الظلام لم يتجاوز 10% من سكان العالم!

هذه الفوقية الأوروبية في التعامل مع الحضارات الشرقية وحضارة الإسلام ليست جديدة، حتى إن بعض المنصفين من مفكري الغرب المتأخرين مثل المؤرخ هاري لاندرث أدرك هذا الخلل، وبدأ يطالب بإعادة النظر في دور العرب والمسلمين في مسيرة الفكر الاقتصادية، وتصحيح خطأ شومبيتر، لكن محاولات التصحيح والمراجعة هذه تبدو خجولة، ولا تتجاوز بعض الإشادة على استحياء بابن خلدون ونظريته في علوم الاجتماع وجوانبها الاقتصادية في نمو العمران وغيرها. هذه الاستدراك الغربي المتأخر أوهم بعض مثقفي العرب بأن ابن خلدون -رغم نبوغه- كان أول علماء المسلمين سبقا إلى الفكر الاقتصادي.

في الواقع، بالإمكان أن نعدّ أكثر من 30 عالما مسلما ممن جاؤوا قبل ابن خلدون، وتكلموا بعمق واستيعاب عن الظواهر الاقتصادية في زمانهم، كحركة الأسواق والإنتاج وطبيعة النقود وسياسة الإنفاق والضرائب وعلاقتها بنواميس المجتمع، وأظهروا رقيا منطقيا في تحليل الأسباب والنتائج، بل إن كثيرا مما نقرؤه اليوم في كتب الاقتصاد، يفوح بعبق علماء الجيل الذهبي عند المسلمين، كما سيظهر لك في هذه الاستعراض السريع.

من أوائل من تكلموا عن أثر ما يسميه المختصون اليوم بالصدمات في مستوى العرض (random shocks) كان عبدالله بن المقفع في كتاب (رسالة الصحابة)، فذكر أن الآفات التي تصيب المحاصيل الزراعية من شأنها أن تؤثر في سعر السوق، ومن ثم يَضعُف دخل المزارعين، وتتأثر ضرائب الدولة سلبا. أما القاضي أبو يوسف، الإمام العلامة الذي تولى القضاء في عهد هارون الرشيد، فألف (كتاب الخراج)، ووصل إلى الرأي الذي يُجمع عليه اقتصاديو اليوم بأن الضرائب شر لابد منه، لأنها تعتبر (عقوبة) على الإنتاج، ومن ثم وَجَب قَصرُها على تمويل مشاريع الدولة ذات المنفعة العامة. كما رأى أبو يوسف أن تكون ضريبة الأرض الزراعية نسبة من قيمة الغلة السنوية، لا أن تكون مبلغا ثابتا كل عام. وطالب بضرورة تقييم المحصول في السوق الحرة، كما يعرف اليوم بـ(mark to markets)، لأن ذلك ادعى إلى الشفافية، وأبعد عن تلاعب عمال الضرائب. هذا التحليل العميق لم يتوصل إلى مدلوله اقتصاديو الغرب إلا مؤخرا.

أما ابن قدامة المقدسي، الفقيه الحنبلي الجليل، فقد كان يعارض مبدأ تحديد الأسعار من قبل الدولة أو السلطة، ولم يكتف لبيان رأيه بما رُوي في كتب الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يُسعّر للناس لما طلبوا ذلك، بل زاد على النص بأن أورد تحليلا اقتصاديا رفيعا عن ضرر التحديد المركزي للأسعار، وأن من شأنه أن يؤدي إلى نتائج عكسية، كاضطراب حركة التجارة، ونقص البضائع المستوردة في السوق، وحصول الشح في السلع، وتدهور رفاهية المواطنين إجمالا. فكم من المعاناة كان سيتجنبها أصحاب المبادئ الاشتراكية والتخطيط المركزي في الاقتصاد لو هم قرؤوا واستوعبوا تحليل ابن قدامة!

وفي كتاب (الحسبة في الإسلام) يجيب شيخ الإسلام ابن تيمية إجابة العالم المُدرك لما يدور حوله من ظواهر، على سائل يشتكي من ارتفاع الأسعار - والتي كان يغلب عليها الثبات في ذلك العهد - ويبين أن ذلك ليس بالضرورة راجعا لظلم التجار أو تلاعبهم، بل قد يعود لتغير ظروف العرض والطلب (شح السلعة مع زيادة الطلب عليها)، ومدى شدة استجابة الطلب لارتفاع الأسعار. وهذه الإجابة هي تماما ما يُعرف اليوم بتحرك منحنيات العرض والطلب، ومفهوم مرونة الطلب (elasticity of demand)، كما نفهمها في مصطلحات الاقتصاد الحديثة.

هؤلاء الأفذاذ، وغيرهم  الكثير ممن لم ننل شرف ذكرهم، يظن أكثر الناس أن إنتاجهم الفكري كان مقتصرا على علوم الشريعة بالمعنى الضيق، بيد أنهم امتلكوا فكرا ثاقبا وشاملا لحركة الإنسان في الحياة، فتناولوا ظواهر اجتماعية اقتصادية صرفة، بكل منطقية وانسجام مع المنهج الرباني ودون تشنج.

ما ذكرته بإيجاز لشيء من الآراء الاقتصادية الأصيلة عند كوكبة من مفكري عصر النهضة الإسلامي هو تفنيد لنظرية (الفجوة) التي ابتدعها شومبيتر وغيره، وإحياء للاعتزاز في نفوس المهتمين بالاقتصاد، أو المقبلين على دراسته، وليعلموا أننا لسنا متطفلين على هذا العلم القيّم، بل كانت لأسلافنا إسهامات جذرية فيه، شكلت لبنات مهمة في بناء هذا العلم الذي انتهى إلى ما نراه اليوم، وهو بلا شك في اشتياق لاستئناف مساهمات المسلمين فيه.