-1-

تقرؤون هذا المقال، وقد بدأ ضيوف الرحمن.. حجاج بيت الله الحرام، العودة إلى أوطانهم، وهم يحملون معهم ذكريات الأيام الجميلة والحميمية في المشاعر المقدسة، كما يحملون معهم الهدايا التذكارية لأحبائهم، وأبنائهم، وأقاربهم، من المصاحف، والسبح المختلفة، وسجاجيد الصلاة، والمساويك، والتمور المختلفة، والروائح العطرية، وخلاف ذلك، مما تعجُّ به أسواق المملكة، في مكة المكرمة والمدينة المنورة. وبعض الحجاج عادوا إلى بلادهم، أو هم يستعدون للعودة، وهم يحملون زاداً ثقافياً ودينياً جديداً، اكتسبوه من لقائهم المحدود، مع علماء، وفقهاء، ومثقفين، ومفكرين، جاؤوا للحج أيضاً.

-2-

إن وجود قرابة ثلاثة ملايين حاج هذه السنة، ومثلهم أو أكثر في السنوات القادمة، فرصة كبيرة ونادرة، لكي نرسل عبر هؤلاء السفراء رسائل "الحقيقة السعودية". فهم خير سفراء للحقيقة. وعلينا ألا نلتفت إلى النسبة المئوية الضئيلة، من كبار السن والأميين بين الحجاج في الأعوام القادمة. فرغم عدم وجود إحصائية دقيقة لأعمار الحجاج، إلا أنه من الملاحظ أن نسبة كبار السن والعجزة والأميين بين الحجاج ضئيلة، ربما لا تتعدى 5- 10% فقط.

-3-

إن موسم حج هذا العام مضى، دون أن نقدم للحجاج ما نأمل، وما نتمنى، ولكن علينا أن نستعد من الآن، لمواسم الحج القادمة، لكي نحمِّل هذه الملايين من الحجاج رسالة "حقيقة السعودية" من خلال مسيرة "الإصلاح والانفتاح"، التي شقَّت طريقها بقوة وعزم شديدين، منذ خمس سنوات، وما زالت مستمرة إلى الآن.

فما الذي يمكن لحجاج بيت الله أن يحملوه معهم إلى بلادهم، ويشرحوه لأقاربهم، وذويهم، وللمهنئين لهم بسلامة العودة، وبالحج المبرور؟

هناك الكثير الكثير. ولكن دعونا ننتقِ بعض ما يمكن أن يخدم "الحقيقة الحضارية والتنويرية" في السعودية، التي يقال عنها – في بعض الأوساط الإعلامية - بأنها بلد التشدد، والتعصب، والفتاوى المستهجنة، ويقوم الإعلام المتربص والمتشنج في الخارج بتضخيم، ونشر هذه النظرات على نطاق واسع للتشهير، والتضليل.

-4-

إن أمام وزارة الثقافة والإعلام ووزارة التربية والتعليم أيضاً مهام ضخمة وكثيرة في مواسم الحج القادمة، ومنها... مثالاً لا حصراً:

• من المفيد أن يتم جمع مقالات كثير من الكتاب التنويريين السعوديين في شتى شؤون الحياة، في الصحافة السعودية، وتصنيف هذه المقالات، بحيث يُوضع كل مقال في باب موضوعه. وإصدار هذه المقالات في كتب وكراسات، وترجمتها إلى لغتين رئيسيتين (الإنجليزية والفرنسية) لكي يُدرك الحجيج، ومن هم في بلادهم أيضاً، ماذا يدور في السعودية، ويتعرفوا على الثقافة السعودية الجديدة، ولا يكتفوا بمعرفة جانب واحد من هذه الثقافة، وهي التي يقرؤونها غالباً في المواقع الإلكترونية المتشددة دينياً، على شبكة الإنترنت. وما دام أن الرأي الآخر لم يصل إلى مدارك وأسماع جزء كبير من المتلقين في خارج المملكة، ففي ظني أن هذه الوسيلة من شأنها أن تسد جانباً، وتساعد الحجيج في السنوات القادمة، على الاطلاع على الرأي الآخر السعودي، وليس الاكتفاء برأي واحد أحادي فقط.

• جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست) علامة وظاهرة بارزة في التعليم الحديث، ليس السعودي فقط، ولكن في التعليم العربي بشكل عام. ونتائج هذه الجامعة العلمية ستظهر في المستقبل القريب. ولنعلم، أن الهدف من هذه الجامعة ليس التقدم العلمي فقط، ولكن بدء التحوّل الاجتماعي، وتأكيد هذا التحوّل على أرض الواقع. وكذلك، تطبيق نداء "حوار الأديان" و"حوار الآخر" بشكل عام، على أرض الواقع، من خلال هذا المزيج من الطلبة ذوي الأعراق والجنسيات والأديان المختلفة. وكل هذا يؤمل أن يضمه كُتيّب مصور عن هذه الجامعة، سيما وأن كثيراً من الحجاج – ربما – لم يسمعوا عن هذه الجامعة. ومن سمع عنها لم يزرها، ولم يدرك معاني افتتاحها وعملها، على النحو الذي هي فيه الآن. وإخراج كُتيب أنيق، ومصوَّر، وملون، يشرح كل هذا، ويباع بسعر رمزي جداً للحجاج في السنوات القادمة، سوف يكون خير رسالة تربوية وعلمية، يحملها الحاج إلى بلده، وأهله.

• لقد خطا الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، في مارس 2010 خطوة حضارية مهمة في زيارته الأخيرة لباريس مع ثلة من المربيات السعوديات لتقديم برنامج "نظرات على المجتمع السعودي". وفي هذه الزيارة ألقى الأمير خالد خطاباً حضارياً مهماً في "مجلس الشيوخ" الفرنسي، دعا فيه إلى "تحالف القيم" بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، وبيّن فيه إنسانية الإسلام وشموليته. كما دعا إلى إقامة "مركز ثقافي سعودي – فرنسي". ومما قاله الأمير في خطابه التاريخي: "من عاصمة الإسلام (مكة المكرمة) إلى عاصمة النور (باريس)، جئت لأتحدث إلى هذا البرلمان العريق، الذي أرسى ثلاثية الفكر الحقوقي المعاصر: الحرية، الإخاء والمساواة. أُثمِّن جهوده في تفعيل هذه القيم الإنسانية العليا، والتي تبناها الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. إن الحضارة الغربية، التي تمثل فرنسا اليوم ركناً رئيسياً فيها، تنتهج قيماً يقارب أكثرها قيم الإسلام، حتى لكأنها معينها ومرجعيتها. إن الأديان السماوية الكبرى تجتمع على مبادئ التسامح الكبرى، وتشترك في قيم عظمى، تشكل في مجموعها مفهوم الإنسانية، وتميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات. ومكة المكرمة، قد شهدت قبل ظهور الإسلام بقليل قيام (حلف الفضول) الذي يمكن أن نعتبره واحداً من أقدم الأحلاف الإنسانية. وبعد ذلك الحلف بنحو أربعة عقود، شهدت مكة خطبة لرسول الإسلام، أوضح فيها لكل البشر، مبادئ حقوق الإنسان." ثم دعا الأمير إلى قيام "تحالف للقيم"، يجمع الإنسانية بسائر أطيافها، وخاصة حضارة الإسلام المشرقة، بحضارة أوروبا الغربية.

وخطاب الأمير خالد الفيصل، وكذلك خطاب الآخرين من الوفد المرافق له، وتعليقات الصحافة الفرنسية على كل ذلك، جدير بترجمته إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية وتوزيعه باللغات الثلاث: العربية، والإنجليزية، والفرنسية. وقد سبق واقترحنا في مقالنا السابق، إقامة معارض للكتاب السعودي، ومنافذ (أكشاك) لبيع مثل هذه المطبوعات بأسعار رمزية، لكي ينقلها "سفراء الحج" وهم خير السفراء، إلى مختلف بقاع العالم. كذلك، علينا ألا ننسى جمع وترجمة الطروحات المهمة التي تمّت في مؤتمرات "الحوار الوطني" الستة السابقة، التي ابتدأت منذ 2003. وفي حوار الأديان في مدريد يوليو 2008 الذي رعته المملكة، وتقديم كل ذلك لحجاج بيت الله، لكي يدركوا مدى الفعالية البشرية السعودية، التي كانت وراء تسهيل أداء مشاعر الحج على النحو الذي تم.