التطرف سهل وكلفته رخيصة، سواء كان يمينيا أو يساريا، فيكفي من الناحية الدينية مثلا أن تكون محرما لكل شيء فتكون بهذا متطرفا يمينيا من الغلاة، وربما وصفك الكثير بالتدين والمحافظة بل والمثالية! وكذلك يكفي أن تكون محللا لكل شيء فتكون بهذا متطرفا يساريا من الجفاة، وربما وصفك الكثير بالتمدن والتحضر بل والاستنارة!

وأما الوسطية والاعتدال فصعبة ولو كانت على الفطرة، وكلفتها غالية ولو كانت مريحة، فالوسطي ينطلق في حياته من أصول وقواعد وثوابت ومقاصد ومنطق وعقل وفكر وثقافة ووعي وشجاعة، وليس بناء على كسل بتقليد أعمى أو هوى ورغبات نفسه، فضلا عن غيره ممن يراعيهم حتى في مأكله وملبسه، ناهيك عن قوله وفعله، خوفا من أن يكون خارج السائد والتيار.

ولتتأملوا معي واقعنا الاجتماعي وأثر هذا الفكر المتطرف هنا وهناك عليه، وسوف تجدون أن المتطرفين في الجانبين أقل كلفة في ردود الأفعال من المجتمع، فالغلاة يجدون فئة يصفقون لهم ولا يخالفهم إلا الجفاة في الطرف الآخر وربما زادت شعبيتهم بسبب هذا الخلاف، وكذلك في جانب الجفاة حيث يجدون فئة تصفق لهم ولا يخالفهم إلا الغلاة في الطرف المقابل وربما زادت كذلك شعبيتهم بسبب هذا الصراع، وفي المقابل نجد أن الوسطي لا يصفق له إلا القليل، ولكن يحاربه المتطرفون في الجهتين من الغلاة والجفاة، وهذا ما لمسته شخصيا في مسيرتي الفكرية والسلوكية، حيث إن الغلاة يتهمونني بالانتكاس والتلون وأحيانا بخلطة (الليبروجامية) بسبب موقفي من غلوهم وإرهابهم ودفاعي عن مكتسباتنا الوطنية، وكذلك الجفاة يتهمونني بالتشدد والتخلف لمجرد موقفي من الحجاب وباقي فروضنا الشرعية، وبالتالي فالوسطية ليست غنيمة باردة في بيئتنا السعودية لكون المجتمع منقسما بين فئتين وإن كانتا أقليتين بالنسبة لعدد السكان إلا أن صوتهما هو الأعلى ولا سيما الغلاة، ولكن الوسطية التي توافق الفطرة مع أن الأغلبية معها إلا أنها صامتة ومتفرجة، ولكنها بدأت تتسيد مؤخرا بفضل الله مع التطور العلمي والانتشار الثقافي وتوفر وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، لا سيما الإعلام الجديد، وخصوصا مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها "تويتر" الذي تسيد الساحة وصار المؤثر الأول على الرأيين الخاص والعام، وبعد ما كنا قبل سبع سنوات نجد الغربة الكبيرة في دعوتنا للوسطية والاعتدال، إذ بنا نجد اليوم الكثير من الشباب والفتيات يسابقوننا بل سبقونا في ذلك، وما نراه في هاشتاقات تويتر أكبر دليل على هذا التطور والنمو الفكري والحمد لله، ولكنه يحتاج لرعاية وترشيد حتى يبلغ أشده وينضج ليقود بعد ذلك الساحة بجميع أصعدتها العلمية والعملية، بإذن الله.

وكدليل ونموذج على ما ذكرته أعلاه فقد كنت في أميركا وشاهدت الآلاف من المبتعثين رجالا ونساء، وقابلت منهم المئات، وتحاورت مع العشرات، وخرجت من ذلك بانطباعات شاملة وتصورات كافية لأن أقول إنني سعدت بالغالبية الوسطية من الجنسين إلا إننا لا نزال نشكو من الطرفين ولو كانوا أقلية إلا أنها مؤثرة، فقد قابلت بعضهم من الغلاة، حيث قال لي أحد المبتعثين إن برنامج الابتعاث (تغريبي!)، فقلت له (لماذا تنخرط فيه ما دام أنك تعتقد ذلك؟!) بل الأغرب في الأمر أن زوجته مبتعثة كذلك وتقود سيارة خاصة بها وتذهب للجامعة والمكتبات بمفردها، دون أن يتهمها بتلك التهمة الظالمة!، وهناك مجموعة من أقربائه وقريباته المبتعثين كذلك، وموقفه هذا جمع بين أمرين، الأول التطرف الفكري، والثاني التناقض السلوكي، ولكن في المقابل شاهدت مواقف لا تسر الغيور فضلا عن العربي، ناهيك عن المسلم، حيث رأيت (بعض) أبنائنا المبتعثين بأشكال غير لائقة في قصات شعورهم ومظهر ملابسهم، فضلا عن علاقاتهم العاطفية، وممارساتهم السلوكية، وخصوصا في شأن المخدرات، ورأيت الكثير من بناتنا المبتعثات حتى في حفل التخرج غير ملتزمات بالحجاب، ولا أقول النقاب، وإنما يكفينا الالتزام بأي قول من أقوال العلماء في ذلك، ولكن لم يقل أحد من الفقهاء إنه يجوز كشف الرأس وإظهار الشعر وتسريحه أمام الرجال، فضلا عن ملابس السهرات، وأحيانا إظهار الذراعين والساقين!، وحينما استنكرت بعض تلك السلوكيات استغرب بعضهم موقفي وقال كنا نعدك من الوسطيين!، فقلت له إن الوسطية لا تعني الانحلال عن ثوابتنا، كما أنها لا تعني الغلو والإرهاب كذلك، فيجب التقيد بديننا في كل زمان ومكان، ويجب على الملحقيات الثقافية كلها أن تلزم الشباب والفتيات بالضوابط الشرعية، وأما تركهم على هواهم فليس من الحرية، بل من التمرد على دستور البلاد وقوانين الوطن، لا سيما في الأماكن الرسمية كالملحقيات الثقافية والحفلات الوطنية، ومع ذلك فهذه حالات قليلة إلا أنها تشوه المظهر العام وتغذي التطرف المضاد.

وكما قلت سابقا إن الوسطية هي الخلاص، أقول أيضا إن التطرف هو الهلاك في شأنَي الدين والدنيا، وإن كان تطرف الجفاة أثره محدودا على صاحبه إلا أن تطرف الغلاة ضرره متعدٍ إلى غيره ومجتمعه ودولته، مما يوجب الاهتمام بمكافحة الغلو لأنه عتبة الإرهاب الذي شوه الإسلام وأضر بالمسلمين في العالم وهو يزعم خدمته وهو الذي يستخدمه لمصالح هوى شبهاته وشهواته.

وختاما أسأل: أرأيتم كيف أن الوسطية الحقيقية صعبة ومكلفة في حين أن التطرف سهل المنال وغنيمة باردة للكسالى؟!

والله ولي المعتدلين وبه نستعين على المتطرفين، ونعوذ به من الكسل ومفاسده في ديننا ودنيانا، والحمد لله الهادي إلى سواء السبيل.