تتضمن سيرة (هيلى ثلاثي) الملك الذي حكم إثيوبيا أكثر من أربعين عاماً قصة طريفة وجديرة بالتأمّل. صعد نجم هيلى ثلاثي أو (حيلي ثلاثي) كما يفصّح الاسم بعض المترجمين، في العقد الثالث من القرن العشرين، في أواخر الحرب الأهليّة الحبشية كنبيل يقترب من تتويجه ملكاً على إثيوبيا كلها. قد تمكّن بالفعل من أن ينجح في استقطاب أغلب زعماء الحرب الأهليّة واحتوائهم تحت مظلّته. في المقابل فقد كان (ماك بلشا) واحداً من أكثر مناوئيه جرأة وعناداً، إذ كان طامحاً إلى السلطة ومعتدّاً بقوّته كمحارب عظيم. بصيغة بين الأمر والطلب صدرت تعليمات ثلاثي إلى بلشا بالحضور إلى أديس أبابا، فقرّر الأخير أن ينفّذ الأمر ولكن بطريقة تقلبه لصالحه. حيث خطّط أن يأتي بالموعد الذي يريده هو ومعه جيش من عشرة آلاف رجل ليعسكر بقوّته العظيمة على مسافة ثلاثة أميال من العاصمة. فعل ذلك وبدأ في الانتظار كملك.
أرسل ثلاثي يدعوه لحضور حفلة مسائية على شرفه. لم يكن بلشا غبياً بشكل يوقعه في فخّ كهذا، فاشترط لموافقته على الحضور أن يأتي تحت حراسة ستمائة من أقوى جنوده، كلّهم مسلحون ومستعدون للدفاع بشكل مباشر عند أدنى ارتياب. ولكن ثلاثي فاجأه بأن رحّب بل وأعلن أنّه يتشرّف باستضافة محاربيه أيضاً.
كان بلشا حذراً بحيث أوصى كل مرافقيه بتفادي الشرب أو الغفلة. أظهر ثلاثي عند استقباله لهم كل حفاوة وسرور وعامل بلشا كأنه بأمسّ الحاجة لتعاونه. قاوم بلشا هذا التعامل الساحر ونبّه ثلاثي بشكل فجّ بأن جيشه القابع خارج المدينة لديه تعليمات واضحة بمهاجمة المدينة إذا لم يعد زعيمه إليه عند حلول الظلام.
فما كان من ثلاثي إلا أن عبّر عن ألمه الناتج عن عدم ثقة ضيفه به واعتبار ذلك أمراً جارحاً لمشاعره. صدح المغنّون في تلك الأمسية فقط بالأغاني التي تمجّد الزعيم الضيف فبدأ يقتنع بالفعل بأنّ قوّته مكان رهبة مُضيفه في أديس أبابا وشعر بأن المستقبل سيكون لصالحه دون شكّ.
عاد بلشا نحو معسكره وسط الهتافات والتحايا. ودارت رأسه بأفكار جامحة حول عودته إلى أديس أبابا ودخولها فاتحاً في فترة قصيرة بل وربّما التفكير بالمصير الأفضل لثلاثي حين يقع في قبضته، أهو السجن أم الموت؟
ولكن عند اقترابه من معسكره اكتشف أن أمراً جللاً قد حدث! حيث لم يجد مكان معسكره سوى الدخان المتصاعد من نيران الجند المطفأة، فأين ذهب الجيش وأيّ جحيم قد ابتلعه؟
لم تطل حيرته فقد أخبره شاهد عيان بما جرى. فأثناء الحفلة، تسلّل جيش كبير بقيادة أحد حلفاء ثلاثي إلى معسكر بلشا عبر طريق جانبيّ لم يكن بحسبانه. ولكن ذلك الجيش لم يأت للقتال بل أتى حاملاً معه سلالا من المال والذهب! طوّقوا جيش بلشا وانطلقوا لشراء كلّ قطعة من أسلحتهم بأسعارٍ قلّ أن تقاوَم، إذ لم تبقَ خلال ساعات قليلة سوى عصبة صغيرة رافضة للبيع قبل أن ترضخ تحت التهديد. كانت المدة التي قضاها بلشا في تلك الأمسية كافية لنزع سلاحه وتفرّق جيشه في الشعاب. بل إنّه وجد نفسه في نهاية الأمر محاصراً في ستمائة من رجاله فقط، بين الجيش الذي اشترى أسلحة جنوده، والجيش الذي خرج به ثلاثي في أعقابه من المدينة. هكذا اضطرّ للاستسلام، ليقضي البقية الباقية من عمره في دير للرهبان.
تكشف هذه القصّة أكثر من جانب من جوانب الدهاء التي اتّسمت بها شخصية ثلاثي، ولكن الجانب الأبرز كما يبدو لي متعلّق بطريقة إدارته لموارده. كان ثلاثي يمتلك المال الكافي للاستمرار في قتال بلشا كما يبدو، إذ كانت سلال الذهب الوارد ذكرها في القصّة كافية لتجنيد المزيد من الرجال وتسليحهم، كما أنها كافية لشراء ولاء بلشا نفسه بشكل مؤقّت وتأجيل طموحاته إلى حين. ولكن كلا الخيارين مكلفٌ وغير مضمون العواقب. إنّ فن إدارة الموارد لا تقتصر أهميّة إدراكه على الزعماء السياسيين فحسب، بل هو فن ينبغي تعلّمه على الصعيد الفرديّ أيضاً. يحدث كثيراً أن يهدر أحدنا الأموال في حلول مؤقّتة لمشاكله وكثيراً ما يؤدي التأجيل إلى عودة المشكلة ذاتها بعد حين على نحو أكثر تأزّماً في كلّ مرة. في المقابل هناك من تستحوذ عليه فكرة التخلّص النهائي من الألم دون التفات لمحدوديّة موارده فيمضي إلى اختيار أكثر الطرق مباشرة وصدامّية. ولكن أشخاصا كبطل هذه القصة قد يهتدون إلى الانعتاق من أسر نمطيّة هاتين الطريقتين، فيقطفون ذلك الحل المتواري خلف أحجبة العادة.
أخيراً، فإنّ اللغة الجعزية هي إحدى شقيقات العربية وتنحدر معها من شجرة اللغات نفسها، وعبارة حيلي ثلاثي بها تعني (قوة الثالوث) وهذا قريب جداً من اللفظ العربي فكلمات "حَوْل وحَيْل وحيلة" ونحوها تدور في العربية حول المعنى نفسه تقريباً أي القوّة. أمّا الثالوث المشار إليه في الاسم فمأخوذ من الطريقة المسيحية الأرثوذكسية في الإشارة إلى الإله، أو كما يعبّرون عنه بالقول "ثلاثة أقانيم لحقيقة واحدة".