رحل شعراء كثر من شعراء الجنوب، من ابن ثامرة وأبو جعيدي وابن طوير وحوقان، وغيرهم من الشعراء الكبار الكبار، فما الذي اختلف في حالة رحيل الشاعر الكبير الأثير محمد بن مصلح قبل أيام، ولماذا احتشد الدمع في عين الجنوب كلّه بهذا الشكل الخاص، حتى لكأن الفقيد لا يخص قبيلة زهران بمفردها، فالعين واحدة والفقد واحد، وإن اختلفت القبائل.
السبب الواحد والوحيد والأهم من وجهة نظري البسيطة، أن مصطلح شاعر القبيلة مات مع موت ابن مصلح، وأظنه كان آخر من رحل وهو يحمل هذا المسمى، بكل ما لهذا المسمى من دلالات لغوية ونفسية في الوعي الجمعي، ولهذا فإن موت ابن مصلح كان موتا للمصطلح نفسه، وموتا للمُسمّى.
علاقة ابن مصلح بالناس هي علاقة بالذاكرة في الدرجة الأولى، فهم عندما يبكونه الآن في مراثيهم وتعازيهم، إنما يبكون ذاكرتهم في الأساس من خلال ابن مصلح، فهو بالنسبة لهم تاريخ للمكان والزمان والذكريات، هو مسح طوبوغرافي للذاكرة، تحتشد فيه أسماء الأودية والجبال والطيور والنباتات، وهي كلها تعني لهؤلاء الناس ذاكرة وحياة، فهم يرثون حياتهم برثائهم ابن مصلح، وإن كان ذلك يحدث لهم بشكل غير مباشر.
إن حياة ابن مصلح وقصائده، هي في الأساس ذاكرة أبي وذاكرة جدّي قبل أن تكون ذاكرتي أنا. ولهذا فابن مصلح هو اختصار لجيلين أو ثلاثة من ذاكرة أجيال أبناء الجنوب عامة، كان فيها صوتا يملأ المكان والزمان.
لقد كان لابن مصلح -رحمه الله- ولقصائده دور بارز ليس في تنمية الذوق الشعري واللفظي لدى أهل الجنوب فقط، بل كان له دور كبير في تنمية الذوق اللحني لديهم من خلال عشرات الطروق والألحان التي يغنيها في المحافل، إضافة إلى تنمية الإحساس بالتراب والموطن، والانتماء القبلي الصحيح لا الذي يدعو إلى التناحر.
رحل ابن مصلح، وما زال صوته يملأ الوديان وهو يقول: طوّل علينا اليوم يا ليل يا ليل.