قاص، روائي، شاعر، كاتب مسرحي، كاتب سيناريو، وبالطبع كاتب مقالات.. هذا نموذج فقط من بين عشرات السير الذاتية لبعض الأدباء، والتي يتجملون بها زوراً أمام الناس بمناسبة ومن غير مناسبة، بل إن بعضهم يضعها مجتمعة على غلاف إصداره الأول وهو لا يجيد منها شيئاً، وكلما زاد ضعف الأديب زادت -في الغالب- صفحات سيرته الذاتية وتوسعت مواهبه المُّدّعاة، اليوم تحتار من تصدق: واقع المؤلف المأساوي معرفياً وثقافياً -من خلال ما تقرأ له- أم سيرته الذاتية المتخمة على الغلاف؟ والطريف في الأمر أن أغلبها لا بد أن تتزين بالعبارة التالية: (وله الكثير من المشاركات المنبرية)، وحين تفتش عن حقيقة تلك المشاركات تجد أن الرجل الطيب اتصل يوماً على برنامج نور على الدرب ليستفتي في أمور دينه، ثم حسبها الرجل مشاركة منبرية، وربما لولا الحياء لذكر بعضهم في سيرته الذاتية أنه تزوج أربع مرات، وشارك في برنامج افتح يا سمسم عندما كان طفلاً وحظي بصورة مع نعمان، وكان يتبرع من حين لآخر بفلي الصئبان من شعر أطفال القبيلة حرصاً منه على نظافة أبناء المستقبل! إنه أمر ممجوج بالفعل أن يحوي الإصدار الأول للمؤلف -أي مؤلف- سيرة ذاتية لا يمكن أن يدعيها حتى طه حسين أو توفيق الحكيم، ولو افترضنا جدلاً صحة بعضها فلا يمكن أن تجتمع كلها بنفس الجودة في شخص واحد، ويبدو أن بعض الناس يعيشون في وهم كبير حين يعتقدون -خطأً- أن كثرة صفحات السيرة الذاتية تعني أنك أمام رجل ناجح ومؤثر، إذ الحقيقة أنك أمام إنسان مأزوم ومحطم الكبرياء، بدليل أن من يكتب تلك السير هو المؤلف نفسه، وبالتالي فإن المصداقية يشوبها الكثير من الشك. في الإصدارات العالمية وحتى بعض العربية -كمثال- تجد احتراماً كبيراً للقارئ بل وتواضعاً يجبرك على احترام النص المكتوب، إذ يكتفي المؤلف بتقديم العمل كما هو بعيداً عن النرجسية والاتكاء على أوهام لا وجود لها، ودون أن يُطري نفسه بأوصاف وقدرات لا يصدقها عاقل، وكمثال آخر فإن كاتباً كبيراً بحجم أنيس منصور لا يلزمك بسيرة ذاتية على أغلفة كتبه التي تقرأ في كل مدن العالم العربي تقريباً، فهو يكتفي بكلمة الغلاف فقط، وفي الداخل جدول بأسماء الكتب التي ألفها، ولكم أن تتخيلوا أنها أكثر من (181) كتاباً، وهذه هي السيرة الذاتية الثرية لأي مؤلف، والبقاء الذي لا يحتاج لتلميع أو مشاركات منبرية تبعث فيك الضجر والكآبة على شاكلة: (نشكر المحاضر على ما قدم) أو (لقد جرى على لساني بيتان من الشعر ترحيباً بالضيف الكريم)! فهل يدرك بعض أدبائنا أن ما يبقى هو العمل الكتابي الجيد نفسه وليس السيرة الذاتية المزيفة؟ لقد قيل يوماً إن أعظم قارئ في مصر هو عباس محمود العقاد، وقيل أيضاً عن تلميذه أنيس منصور إنه أعظم قارئ في الوطن العربي، ومع ذلك لن تقرؤوا هذا على أغلفة كتبهما فلقد بعثا من الأمل والأفكار الجميلة ما يكفي ويغني ويبقى لأجيال وأجيال، ترى ماذا سيحدث لو وصف بعض الأدباء لدينا بأنهم أعظم القراء؟ كيف ستكون النتيجة وكم سيصبح عدد صفحات السيرة؟! وهل سيذكرون فيها كل الكتب التي قرؤوها كي يؤكدوا للناس أنهم يستحقون ذلك الوصف وأنهم من الأهمية بمكان؟ المؤلم أن هذا المرض -السير الذاتية المزيفة- لم يعد حكراً على الأدباء وحدهم، بل تطور حتى وصل إلى الموظفين ومن في حكمهم من التربويين ومديري العموم، صحيح أن سيرهم الذاتية مختلفة التفاصيل وحسب طبيعة العمل، فهي تعتمد بالدرجة الأولى على دورات الويندوز، وفتوحات البرمجة اللغوية العصبية، وشهادات الشكر التي تقتات عليها محلات (أبو ريالين)، بل وحتى دورات معهد الإدارة تدخل في السيرة الذاتية من أجل البريستيج وأشياء أخرى، لكن في النهاية هي نفس الفكرة بعد تعديل ما يلزم، والطامة الكبرى أن أصحاب تلك السير العصماء سواء من الأدباء أو من الموظفين يصيبون الناس بالملل حينما يجلسون على المنابر في أمسية ما، إذ سرعان ما يتصبب مقدم الأمسية عرقاً وهو يقرأ تلك الفتوحات العظيمة في سيرة الضيف، وكأن الحارة لم تنجب أحلى من ولدنا، في وقت يحضر فيه الناس للأمسيات كي يستمعوا لشيء مفيد وليس لقصة حياة يشوبها الكثير من الخلل، ولذلك أتمنى من أصحاب السير الذاتية المتخمة أن يتواضعوا فالناس أصبحوا يقرؤون جيداً، و يعرفون الأكمة وما خلفها من البؤس والهشاشة.