تُرى كم من الدعاة عندنا، يرتقون فكريا إلى ضرورة التعامل مع الواقع داخل التاريخ، للحصول على نتائج مؤثرة في طريق الوصول لمعرفة القوة العظيمة المحركة للكون، عبر الإنسان وإبداعه وعلاقاته مع الملموس، ومهمته في إظهار ذلك عبر اكتشافاتها لهذا الكون الذي لا ينتهي؟
يا تُرى كم من الدعاة لدينا لديهم مساحة طيبة من الوعي بضرورة إشراك المختلف في الحوارات والأطروحات والنظريات على الطاولة؟ ويا تُرى كم من الدعاة لديهم القدرة على التفكير والتركيز على عمارة الأرض؟
يا تُرى كم من الدعاة لدينا قرأوا تاريخ أوروبا الديني والعالم من حولهم، وكم من الدعاة استوعبوا التحولات الفكرية التي حدثت في تاريخ الديانات على مستوى العالم؟
يا تُرى كم من الدعاة يستند إلى التجربة والبرهان العلمي، أكثر من اعتماده على قارورة ماء لإثبات خطأ نظرية دوران الأرض وكرويتها؟
شخصيا لا أرى الغالبية العظمي منهم يحاولون القيام بمجهود كبير على هذا الجانب، ويظهر تناولهم السطحي دائما لكل ما يتعلق بتاريخ الأمم، والنظريات، والأطروحات الفكرية والعلمية، وهو ما ينبئ عن قدوم التحولات الجذرية لكثير من المفاهيم الفكرية الدينية، المطروحة اليوم من خلال هؤلاء الدعاة.
إذ كعادة كل الأشياء التي يبنيها الإنسان على الاحتمالات الظنية، ينتهي بها المطاف إلى هجران الناس، تماما كما انتهت سيطرة الدين المشوه الذي تزعمته الكنيسة في أوروبا على مدى قرون طويلة، على المجتمعات الغربية بشكل كبير جدا، وانحسرت معه قوة قبضة القساوسة والباباوات والأطروحات الدينية، بظهور الإنسان الأوروبي الحديث، بفكره وطريقة رؤيته للحياة الجديدة، وما يجب أن يقدمه أو يؤخره على مستوى الواقع.
إذ تقول الإحصائيات الأخيرة أن 3% فقط من الأوروبيين لا زالوا يرتادون الكنيسة كل أحد للصلاة –بحسب اللاهوتي الأميركي بروفيسور R.C Sproul- وهو أستاذ في الفلسفة اللاهوتية، له العديد من الأطروحات والاطلاع على التحولات الدينية في أوروبا، وتأثر المسيحية بالفلسفة على مر العصور، واصطدامها بما تطرحه الكنيسة على مر العصور، وأحد تلك الاصطدامات ما حدث مع الفلسفة الهيجيلية، التي يعتقد الفيلسوف "برتراند راسل" أنها مجرد كلام فارغ، بقوله "أنهكت نفسي في استيعاب هيجل، فلمّا استوعبته عرفت أن فلسفته لا قيمة لها"..!
في الواقع ما يراه راسل في فلسفة هيجل يمكن وصفه بالموقف ما بعد التأثر بالأفكار الكنسية، إذ هو الآن يفكر فيما بعد المرحلة، بينما كان هيجل يصنع الفارق في العقول في زمنه –أواخر المرحلة ذاتها-، فقد سيطرت فلسفة هيجل في القرن التاسع عشر وطغت عليه، ليس لأنه فرضها بالقوة، بل لأنه تناول الفلسفة من بعدها المنطقي أكثر، وما يحسب له هو أنه نقل الفلسفة بكاملها، من التفكير خارج التاريخ إلى التفكير والتركيز في ما هو داخل التاريخ، أي أن تركيزه الفلسفي كان يحد من التفكير والبحث في الماورائي (الميتافيزيقي)، إلى البحث في المحسوس، والموجود في أصله داخل التاريخ، أي الواقع الذي نعيشه، وهي نقطة منطقية جدا، قلبت تاريخ الفلسفة منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، إذ على ضوء هذا الانتقال، قفز الإنسان قفزات كبيرة على كل المستويات العلمية والفكرية والثقافية والفنية، من خلال تركيزه على ما بين يديه من واقع وملموس، وابتعاده عن التركيز على الغيبيات، وإهدار أجزاء كبيرة من وقته في ما ليس له قواعد بحثية مادية يمكن وضعها تحت الاختبار والتجربة العلمية.
وهنا طرح هيجل أهم نقطة تقاطع فيها مع المدرسة الفلسفية التجريبية، -التي يظهر فيها اليوناني "أرسطو"، كأحد أعظم روادها-، ليكون إحياء هيجل لطريقة التفكير تلك، أهم نقاط التحول الفكري في العالم الحديث، وإن سبقه إلى ذلك بعض الفلاسفة المؤثرين، إلا أن من حسنات فلسفة هيجل، نقلها الفلسفة من الانشغال بالعالم (الميتافيزيقي) الماورائي ونظرية المعرفة (الأبستمولجي)، إلى الانشغال بالعالم الظاهر الملموس، وخيارات البشر في محيط هذا العالم الظاهر، وهذا هو ما اختلف فيه مع الفيلسوف (إيمانويل كانت)، وبداية التحول في روح الفلسفة الحديثة، والفكر الأوروبي، ونتيجة لذلك ظهر عصر جديد للفلسفة بالكامل، جعل الفلسفة للتاريخ وليست خارج التاريخ.
في الواقع نحن كمسلمين يبدو أننا نسير في نفس الطريق وعلى الخطى ذاتها، من خلال الأحداث الجارية حاليا، والتحولات التي تشبه إلى حد بعيد ما حدث في أوروبا القرون الوسطى، فالدلالات كثيرة جدا، والوقت والمتغيرات يتسارعان بشكل غير مسبوق، ويضعان الجميع في طاحونة التغيير شاء أم أبى.