عجيب أمر المهن، وكيف يترزق البشر من بعضهم بعضا فيتسخر أناس لأناس سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون، وربك الرزاق ذو القوة المتين، وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون.
المهن شتى، والصناعات تخصص، والمجتمع حوض الرقي الإنساني، ولولا تخصصات العمل ما قامت الحضارة.
وإلى هذا السر وصل من قبل ابن خلدون حين درس ظاهرة العمران، وتابعه في هذا المحدث دوركهايم حين تحدث عن تقسيم العمل.
وخلاصة نظرية ابن خلدون تقول إن حياة البشر تقوم على الكسب والعمران ولها قوانين، وحتى رغيف الخبز الذي نأكله يحتاج إلى تضافر العديد من المهن حتى ينتج، ومثلا فإن طمر البذر يحتاج لحراثة الأرض، وهذه بدورها تحتاج إلى خشبة وحبل وقطعة حديد لشق الأرض، ولكن قطعة الحديد بدورها تحتاج لتصنيع؟ فالبشر لم يعرفوا الحديد إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، ومن قبل كانت الحضارة البرونزية.
ومن كل صناعة تنبثق عشرات الصناعات، وهي في زيادة؛ فحتى يتم استخراج الحديد وصناعته، يحتاج بدوره إلى العديد من الصناعات، من استخراج زبر الحديد، كما جاء في قصة ذي القرنين في سورة الكهف، ثم إذابته بالنار حتى إذا أصبح سائلا قال آتوني أفرغ عليه قطرا أي النحاس المذاب، فتكون الخليطة أقوى من كليهما؟
وإذا أطلقنا التصور رجعنا إلى صناعة تولد صناعة، وصناعة تعضد صناعة، وصناعة تطور صناعة أخرى، ومنه يقوم المجتمع وهذه فكرة ثانية مهمة يجب استيعابها؟
أي أن المجتمع هو ذلك الحوض الذي ينشأ فيه الإنسان فيتحول من قطعة لحم إلى آدمي سميعا بصيرا قارئا مثقفا يحمل الدين وينطق بلغة خاصة, ومنه انطلق ابن خلدون إلى ضرورة وجود مجتمع لنمو الإنسان على نحو طبيعي، وقال إن ضرورة المجتمع للإنسان تأتي من الغذاء والحماية؛ فلا بد من تعاون بني البشر معا حتى ينتجوا المجتمع الذي يسبح فيه الإنسان فيتعلم وينطق ويأكل فلا يموت جوعا. ولعل اكتشاف الزراعة قبل عشرة آلاف سنة هو الذي طور المجتمع على نحو درامي فلم يبق مجال للموت جوعا بعد اليوم إلا استثناء كما مات في الثورة الثقافية الصينية ثلاثون مليونا من الأنام وماوتسي دونج يزداد انتفاخا ويتكور؟
ومن المهن مايعمل بها الإنسان على ظهر الغمام والسحاب فهو مضيف ومضيفة على خطوط الطيران، وقد ينزل إلى عمق المياه فيغوص مثل جن النبي سليمان وآخرين مقرنين في الأصفاد، فترى عمال البحر ينتشلون من الصدف لامع اللؤلؤ.
وأعجب المهن من عمل في الشواهد أي اللوحات التي يكتب عليها أسماء الموتى. وهي مهنة رائجة في بلاد الغرب حيث تتحول المقبرة إلى بستان، وكأنه سينفع في الميزان ولكنه تنوع الثقافات، وكل قبر عليه لوح من حجر مكتوب عليه العديد من العبارات عن العمر الذي قضاه صاحبه على ظهر الأرض قبل أن يضمه التراب والحصى. ومن المهن الحمال والجقال والبقال والبصال والعتال والغسال للموتى، والخياط والنجار والحداد والمكوجي والكهربجي والميكانيكي، والحلاق والجزار والمهندس والطبيب والبيطري والترزي وكاتب العرائض والمحامي والمؤلف والمفكر والسياسي والصحفي والشرطي والدركي ورجل المباحث وضابط الجنائية، وعشرات المهن المختلفة.
وأعجبها امرأة ضعيفة اسُتغلت واشتغلت بالدعارة، وقد ذكر خلاصها القرآن في سورة النور تنويرا وتطهيرا للمجتمع من أمثال هذه المهن فقال الرحمن "ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم". ولعل أفضل المهن من عمل في الطب راحة للأبدان والكتابة تطهيرا للأرواح من شياطين الفكر والجان، وأزعم لنفسي هاتين المهنتين فضلا من ربي ولكني أقرب للفكر من مشرط الجراح وإن كانت الجراحة تطربني وتسعدني حين أرى نجاة مريض؟ لكن أقبح المهن ولا شك هم جلادو الظلمة فيأخذون رواتبهم على جلد الناس، أما العشماوي الشناق فهو منظر الرعب ويد العدالة المخيف تجسدا في صورة بشر سويا مرعبا مجلجلا بالموت؟ كله يأخذ راتبا ولكن شتان بين موظف دؤوب وآخر كسول يتسلل من العمل لواذا أوالمرتشي والفاسد وما أكثرهم..
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم.