يتحدث المؤرخون عن النصف الأول من القرن التاسع عشر كبداية حقيقية لنهضة اليابان، إحدى القوى الاقتصادية العالمية التي تحكم العالم حاليا، حيث مارس الإمبراطور "توكوجاوا" أقسى درجات الدكتاتورية على طبقات الشعب المختلفة آنذاك لبدء مشروعه الذي لم يكتب له النجاح بتلك الطريقة، قبل أن يبدأ البناء الحقيقي على يد الإمبراطور موتسوهيتو "الميجي" وفق قاعدة "بلد غني وجيش قوي" بسبب المخاوف التي سيطرت على الإمبراطور في ظل التراجع الكبير والانحدار الاقتصادي التي عاشته معظم دول شرق آسيا في تلك الحقبة.

حرص ميجي على كسر عزلة البلاد التي وضعها سلفه، وقلب موازين المعادلة، التي اتكأ خلالها على المواطن الياباني بدرجة أساسية، وفق آليات واستراتيجيات متعددة، أهم ما فيها الاستفادة من التجربة الأوروبية الفرنسية في مجالات الشرطة والتعليم كشرط أساسي للنهوض بالبلاد من القاع إلى القمة، فيما كانت التجربة الألمانية إداريا حاضرة بقوة، واستند إليها الرجل في مشروع النهضة التي بدأت في الصعود تدريجيا وصولا إلى ما وصلت إليه الآن بلاد الساموراي.

لم تشكل الضربة الموجعة التي تلقتها اليابان عقب الحرب العالمية الثانية وضربها بالقنابل النووية من قبل الولايات المتحدة الأميركية أي حواجز في طريق مشروع النهضة الحلم الذي وضع وفق أسس مدروسة، وعقب الحرب العالمية الأولى كانت أميركا ذاتها محطة للاستفادة من التجربة اليابانية في النهضة الصناعية، التي نقلها العملاق الياباني إلى بلاده، وخلق معها قوة اقتصادية هائلة تتربع على عرش القوى العالمية الكبرى.

في التجربة السعودية التي نخوضها وفق رؤية الوطن 2030 لا يمكننا الحديث عن مقارنات حقيقية مع ما سلكته اليابان خلال مسيرة البناء التي بدأت مبكرا، بيد أنه من الواجب الحديث عن بعض النقاط التي يمكن أن نجد لها لقاء في مفترق طرق قادم يؤمل عليه الجميع لتجاوز التحديات الكبيرة الراهنة في مختلف المجالات.

لا يمكننا الحديث عن أي خطة أو استراتيجية أو رؤية دون أن نمتلك الأدوات التي تساعد على التنفيذ، والوصول إلى الهدف وفق تصاعد تدريجي مزمن، خصوصا إذا كان العمل على مستوى دولة كبيرة بحجم المملكة، التي تمتلك الكثير من الموارد البشرية، إضافة إلى الموارد الاقتصادية التي حباها بها الله، وأخرجها رجال كانوا ولا زالوا في خدمة هذا الوطن ورفعته.

الرهانات والتحديات القادمة يجب أن يكون للمواطن فيها حضور قوي، للمساهمة بشكل أساسي في نجاح أي توصيات أو خطط، ولست في حاجة للتذكير بالتجربة اليابانية مرة أخرى في مشكلة خفض الطاقة الإنتاجية للكهرباء والطاقة، حيث اضطر المواطنون إلى نزع البدلات الرسمية عن أجسادهم في عز الصيف، لتخفيض معدلات الاستهلاك والاستعانة بالملابس الصيفية المعتادة لتجاوز تلك الأزمة، وهذا التذكير لا يمثل دعوى مشابهة لا سمح الله لما قام به اليابانيون، بل من باب التذكير فقط بما تقوم به المجتمعات الأخرى في دعم خطط الحكومات الإصلاحية في صغار الدول أو كبارها.

الخطط القادمة التي تريد المملكة انتهاجها لا بد أن ترتكز على المواطن وجعله شريكا أساسيا، مؤمنا بالأهداف الموضوعة، لا أن يصل لمرحلة يشعر بأنه ليس إلا عبئا أثقل كاهل الدولة وحان وقت دفع فاتورة ذلك.

كما يجب أن نمتلك الخطط والأدوات التي يقوم عليها فريق أساسي من المسؤولين ذوي خبرة ورؤية وبصيرة، وعلى درجة عالية من التأهيل، وأن يكون رأيهم ومشورتهم في صالح الوطن والمواطن معا، وهنا يجب التوقف مليا، وإعادة بعض حساباتنا، مع أهمية مساهمة المواطن في كل تفاصيل رؤيتنا، وتحمل بعض أعبائها.

نبحث عن مسؤولين على استعداد كامل للمجازفة بمصالحهم الخاصة، وفي ذات الوقت أن يكونوا صادقين مع وطنهم وقادتهم، وألا تصب مشورتهم إلا في هذا الهدف، ومن أجل الوطن لتحقيق الهدف الأسمى، وهكذا تبنى الأوطان وترتقي من وجهة نظري الصادقة لوطن نحسبه سيكون أكثر ازدهارا لأحفادنا، وللأجيال القادمة.

كما أن تطور وارتقاء الشعوب والأمم لا يمكن أن يقوم إلا بالاهتمام بمحور مهم وهو التعليم، (أحد المحاور التي ارتكزت عليها النهضة اليابانية في بداياتها)، والذي أراهن أنه أساس تطور ونمو الأمم، أو ضعفها وتخلفها، والشواهد على ذلك عديدة في مجتمعاتنا الحالية، فأين كانت مصر وأين أضحت اليوم؟ وهي التي كانت أحد معالم النهضة في العصر الحديث وتجربتها التطويرية تدرس في أكاديميات ومدارس العالم، وغير بعيد نرى اليوم دولا مثل ماليزيا وسنغافورة وتركيا في تصاعد هرمي مخيف بسبب توجهاتها الكبيرة في تطوير التعليم واستثمار طاقات الشباب في التطوير والبحث العلمي.

حفظ الله بلادنا بقيادة ملك الحزم والإنسانية؛ سلمان بن عبدالعزيز.