نقرأ في سورة يس: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، قال يا قوم اتّبعوا المرسلين). ماذا سيلوح لنا إن تساءلنا عن حكمة الإشارة إلى "أقصى المدينة" بصفتها جهة قدم منها من تبيّن له وجه الحق في دعوة "المرسلين" الذين تضمنت الآيات قصتهم مع قومهم؟

يبدو لي أن فكرة (الأقصوية) هنا ترمز إلى وضوح الرؤية الذي تتيحه المسافة الفاصلة بين الحشد وبين الفرد الساعي إلى الحقيقة. هناك ما يحجب الاقتراب رؤيته بما لا يقل خطورة عن أثر التباعد الشديد للمرئي. يصح ذلك في عالم المشاهدات الحسية كما يصح في عالم الأفكار المجردة أيضا. للالتصاق بالحشد أثره السلبي على إدراك الحقائق، سواء كان ذلك حشدا متجسدا في الواقع كما في القصة المشار إليها بالآيات، أو حشدا شكله تراكم الأفكار في بطون الكتب وحناجر المنابر.

لاح لي ذلك وأنا أقرأ تعليق المفكر وعالم الرياضيات الأميركي المسلم (جيفري لانغ) في كتابه (صراع في سبيل الاستسلام) على الحديث المعروف: "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء". عندما قال: "يعتقدون أن هذا الحديث يشير إلى الإغراءات الحسية. ولكن هذا قد يكون فهما ضيقا جدا. فالعديد من المسلمين المعاصرين يشتكون من أن حقوق المسلمة تعيقها قوى ثقافية ذات نفوذ. وإذا كان هذا هو الحال فربما كان هذا أيضا ما دار بذهن محمد صلى الله عليه وسلم".

وجدت نفسي أمام السؤال من جديد، حقا.. ما هو المسوغ الذي حصر فهمنا لمفردة "فتنة" في هذا السياق بالمعنى الشائع الذي نتداوله، والمستقى على الأغلب من الفقهاء وشراح الحديث؟

في الحقيقة، لم أعثر على ذلك المسوغ، فعند العودة لاستعمالات كلمة (فتنة) في القرآن الكريم على سبيل المثال، وجدت أن الإغراءات الحسية والجنسية هي أقل ما تومئ إليه هذه الكلمة بدلالة ما!

يبدو لي أن ما وجه الأفهام نحو هذا المسلك الضيق متعلق بالخلفية الثقافية لقارئ النص، فالقارئ لا يتلقى النص كصندوق فارغ، بل يتفاعل معه من خلال محصلته الثقافية وطريقة نظره للعالم. فالنص بهذا المعنى يصدق عليه ما قاله (إمبرتو إيكو) عن الأرض: "هي بالنسبة للفلاح مكان لرمي البذور، لكنها بالنسبة لعالم الكونيات كوكب سابح في الفضاء". تحدد سعة أفق رؤيتنا طريقة قراءتنا للنص كما تحدد طريقة نظرنا للأرض، هكذا هو الأمر.

لم يفتن رجال هذه الأمة طوال تاريخها بإغراءات الاتصال المحرم بالمرأة كما فتنوا بقدرتهم على ظلمها، بل إن المرأة ما زالت تعاني اليوم من تسلط بعض الرجال في مجتمعنا، فهذه تعضل عن الزواج، وتلك ترغم عليه، وأخرى تعلّق أو تعنّف أو ينتزع منها أطفالها، وهناك من تحرم دون وجه حق من تعليم أو عمل. والشواهد على ذلك أبلغ من التغافل عنها، لا سيما تلك الموثقة في دوائر القضاء ومؤسسات الحماية الاجتماعية. ومن ذلك أيضا تقرير عرضته قناة العربية عن بقاء نزيلات السجون في سجونهن بعد انتهاء محكوميتهن بسبب إعراض أوليائهن عن استلامهن!

في الحقيقة لم تعد المراهنة على مروءة الرجال مجدية، بل من المهم إعادة النظر في تشريعاتنا السالبة لأهلية المرأة التي هي مناط استحقاقها كما هي مناط تكليفها. ومن أهم ما ينبغي إعادة النظر فيه مفهوم (الولاية) والتمييز الجلي بينه وبين مفهوم (القوامة) كمفهومين قانونيين لا ينبغي أن يعوّما في ضبابية اللغة والتراث.

لا يصح كذلك التذرع بقلة ضحايا الوضع القائم، فواقع الأمر خلاف ذلك. وإن كان من المشين على كل حال أن ينظر إلى مظالم البشر بشكل إحصائي، فالأصل أن تعاد هيكلة الأنظمة تحريا لدفع الظلم عن إنسان واحد، وليس النظر إلى مظلمته دون اكتراث بانتظار أن يضاف إليه مزيد من المسحوقين.

ربما يصدق فيمن كان باعثه إلى السكوت عن مظالم أخواتنا خوف الوقوع في الفتنة، ذلك الوصف القرآني "ألا في الفتنة سقطوا".

فالإغراء بالظلم وتيسيره هو أشد الفتن، فكل محرم تطلب حكمة لتحريمه إلا الظلم، فعدم الظلم أي (العدل) مطلوب بذاته لا مطلوب لغيره، فهو منتهى العلل والغايات وغرض نزول الرسالات: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط". فإلى أي مدى نحن مقسطون بهذه القضية؟