بينما يكون هناك شخص ما مشغولا بترتيب أوراقه، وتحقيق أهدافه، وتسوية مسار حياته، تجد الآخر فارغا متناسيا لذاته، منشغلا بمراقبة الأول وتحليل تصرفاته، والبحث عن عثراته وتضخيمها.

الصورة السابقة منتشرة في المجتمع اليوم انتشار النار في الهشيم، وهي اختصار لأحد أشكال اختلاف نوعية الوظيفة الحياتية لمعظم أفراد هذا المجتمع، بمعنى انشغال الأول بحياته وانشغال الآخر به، وحتى يزداد وضوح الصورة، سأقوم بسرد مسرحية توضيحية بسيطة لفهم الموضوع برؤية عادلة.

يستيقظ الأول صباحه لتصحيح أخطائه بالأمس، ومجاهدة النفس والهوى لبناء مستقبله وتمجيده غير مبال بالآخرين، بل قد ينسى أن هناك آخرين.

وبالمقابل يصحو الآخر بلا هدف أو تخطيط ليومه، عدا بحثه وتمحيصه في جديد من حوله، ينظر إلى الساعة، إنها التاسعة صباحا، لقد تأخرت!. يمسك هاتفه ويبدأ اتصالاته، متى استيقظ فلان؟ ماذا فعل علان؟ هل تناول إفطاره تمام السابعة كعادته أم تأخر اليوم؟ هل نسي قراءة أذكار الصباح؟ بالتأكيد لن يقرأها فقد أشغلته دنياه عن آخرته، الله المستعان، هل اتصل بوالدته، عاق لن يفعل ذلك؟ حينما رأيته آخر مرة كان مصفر الوجه، سبحان من يمهل ولا يهمل، قد ابتلاه الله بمرض لقصور دينه وعلاقته بربه، و.. و.. و ...إلخ، وتطول تفسيراته، وتحليلاته، ثم تليها مرحلة النشر، وتبدأ اتصالاته بتوزيع آخر ما توصل إليه في نتائج بحثه لهذا اليوم.

مثل هذه الحالات تؤكد لك أن الفراغ داء قاتل يشعر الإنسان بأنه لا فائدة له، وأنه عضو مشلول في المجتمع لا ينتج ولا يفيد، فيثير إبليس فيه كوامن الغريزة ويُلهبها فتحرقه، وبالتالي يؤذي من حوله، والفراغ -الفضاوة- في نظري هي أولى مسببات تعكر صفو العلاقات الأسرية والاجتماعية، وحتى أكون منصفة الفراغ لا ذنب له، وإنما كيف استغل هذا الشخص وقت فراغه. فلو وضع تحديا مع نفسه لتحقيق هدف ما، تطوير حياته وتغييرها نحو الأفضل، لو انشغل كل واحد منّا بتعديل سلوكه وأخطائه لكان أفضل له من مراقبة الناس؛ ماذا فعلوا؟ وماذا قالوا؟ وإرسال الاقتراحات والنصائح بطرق خاطئة غير مباشرة، ولعب دور الوصي عليهم.

ثم إن مراقبة الناس والانشغال بهم أمر مؤذٍ للنفس، ومع الوقت يتحول الانعكاس السلبي لشعور تتبع إيجابيات الآخرين إلى حسرة في النفس مع قل الثقة في قدراتها، كما أنها تعيق تطوير النفس وتصحيح أخطائها.

قد ينجح الحل لو استغل الوقت بالقراءة، مشاهدة الأفلام ليس بالضرورة العلمية والثقافية فقط، هناك الكوميدية والدرامية وأخرى أكثر متعة وكسرا للروتين، زيارة المتاحف والمعارض، حضور الأنشطة والمهرجانات المحلية، التعرف على المجتمع وثقافة عادات ساكنيه، جُل هذا يصنع منك إنسانا مرنا ومُطّلعا، متقبلا للطرف الآخر مهما كان، والأهم من هذا وذاك يعوض النقص الذي بداخلك، ويعزز ثقتك بنفسك.