تظهر أصوات من ليبراليين أو تنويريين أو أصحاب فكر حر وجديد تدعو إلى احترام الرأي الآخر وعدم القسوة على المخالف وعدم إقصاء الآخر ويقصدون الإسلاميين، بل بعضهم طعن في الليبرالية كمبدأ لأن الليبراليين لم يأخذوا بهذه المبادئ، وهذا فيه تجنٍّ كثير على الليبرالية، ليس من جهة أنه حكم جائر أو أن أغلبهم ليس كذلك، وإنما لأن المقابل إقصائي متعنت، وإقصاء الإقصائي ليس بمعيب، بل مطلب ومن صميم الليبرالية، لأن الليبرالية لا تعطي الحرية لمن يحارب الحرية سواء أكانت حرية الطرح أو حرية الفكر، فرفض كل من يريد فرض آرائه أو معتقداته وأيديولوجياته من المبادئ السامية في الأخلاق قبل أن توجد في الفكر الليبرالي، أو أن هذه الشدة على المخالف لكون بعض الطرح المقابل لا يستحق أن يكون طرحا أو علما، فالمبالغة في اعتبار كل قول رأيا وجعل كل حقيقة نسبية لهو تمييع لها إلا إن كان ذلك منطلقا من علم، أي أنه يمكن لأي شخص أن ينفي أي حقيقة لكن من خلال علم يصل إليه، أما رفضها بلا علم أو بعلم هزيل ثم الدعوة إلى احترام هذا الرفض فهذا تمييع.

ما سبق قاعدة عامة، وما يعنيني هنا كمتخصص في الشريعة هو إنزاله على الشريعة وأحكامها الفقهية أكثر من غيره. فبعض الإخوة الفضلاء بدؤوا بتعداد مناهج الفقه لتقرير الخلاف، وأن هذا العالم له مذهبه وهذا له مذهبه، ولم يكونوا في عصور الاجتهاد الحقيقي يعنف بعضهم بعضا، أو ينكر بعضهم على بعض إنكار رفض ومحاربة، وهذا صحيح كمبدأ ولا مشاحة فيه، ولكن يجب ألا يكون على حساب العلم نفسه، فالعلم أيضا مستويات، فهناك الصواب وهناك الخطأ، وهناك العالم وهناك نصف العالم، وهناك من يوظف الدين، وهناك المتجرد، فلا يمكن أن توضع كلها في سلة واحدة من حيث الاعتبار والاحترام، فلا يمكن أن يوضع منهج علمي قائم على المقاصد والعلم والفهم بجوار معان حرفية سطحية لا تعي أي معنى للنص ولا للمقاصد، بعيدة عن العصر، وتخرج أحكاما متناقضة، وتنفر الناس من الإسلام ومن دراسة الشريعة، ثم نقول احترموها.

إن أقصى ما يعطى لهذه الآراء هو ترك أصحابها يعبرون عنها من باب حرية الطرح، لكن لا يمكن اعتبارها علما، وقديما لم يكونوا يعتبرون أهل هذه المعاني الحرفية السطحية من أهل العلم، فابن العربي المالكي وصفهم بأنهم أمة سخيفة، وقد نقل ذلك الذهبي عنه في السير، وقال آخرون كالنووي إنه لا يعتد بهم في مخالفة الإجماع، أي ينعقد الإجماع بدونهم ولو خالفوا، وقد نقل ذلك الشوكاني في إرشاد الفحول، وكل هذا لأنهم كانوا يدركون معنى العلم، وأن من لم يأخذ بالعلل والمعاني فليس بعالم كما هو حال الكثيرين اليوم وللأسف، ولم يكونوا يميعون الدين بما يعرف باحترام الرأي الآخر علما بأن احترام الشخص يختلف عن رأيه، فكل كلامي عن رأيه أو طرحه وليس شخصه.

لو كان هناك من لا يوافق على ما سبق فما قوله فيمن يكذب في أحكام الشريعة، ويدلس على الناس، ويستدل بأدلة يعلم أن هذا ليس موضعها، وينتقي ويحرف في النقل عمدا، فهل هذا يحترم أيضا؟.. ربما وبسبب سيطرة أولئك على المشهد الفكري والديني يحاول بعض التجديديين عدم المواجهة بهذه الطريقة، ولكن العلم أسمى من المداراة، خاصة أن هناك بعض طلبة العلم الذين قد يغرون بمثل هذه الدعوات ويظنون هذا منهجا فقهيا أو علميا أو منهج أهل الحديث حينما ينسبون تلك السطحية إليه مع أنه ليس كذلك، ولعل تبيان الفرق بين منهج أهل الحديث والمنهج الحرفي يحتاج إلى مقالة أخرى ليس هذا مقامها.