أكثر ما يبعث على اليأس حول النهضة المرتقبة في المملكة تنموياً وبشرياً وقيماً وأخلاقا وحقوقاً أن تكون في مدينة كمدينة بوسطن الأمريكية ثم تتابع ما يحدث في الوطن من أخبار عبر الإنترنت. ما سمعته من أخبار متصلة بالمجتمع خلال الأسبوعين الماضيين محبط للآمال بشكل كبير. هذا رجل يطعن آخر في سوق برزان في حائل بسبب العيون المكشوفة التي وجدها الأول فاتنة. قبل ذلك سمعت أن ممثل الهيئة في مؤتمر رسمي أوضح بجلاء أن المجتمع سيتعب من اللقطاء لولا الهيئة. موظفات سعوديات للتو يلتحقن بمهنة تعتبر من أهم المهن من حيث عددها وحاجتنا لملئها بالسعوديين يتعرضن لوابل من الاعتراضات. هذه الأخبار تأتي من خلال معارك تدور رحاها بين طرفين. طرف محتسب يعتقد أن كل تطور ونماء موجه للأفراد من خلال إلحاقهم بالعمل وتوسيع هذه الفرص ومنح الفتاة حقها في اكتساب الرزق هو محاولة لتغريب المجتمع بسبب فوبيا الاختلاط. وطرف آخر يسعى جاهداً للتخلص من حساسيات هذا الاختلاط الذي أصبح يقف حائلاً بين الوظيفة وبين الفتاة أو بكلمة أخرى بين الكفاف والفقر بين الإنتاج والبطالة.

لكن ما هو هذا التغريب؟ الذي أقرؤه من أطروحات من يطلق عليهم دعاة التغريب لا يتعدى المطالبات التي يتمناها أي مواطن. فهل المطالبة بالمحافظة على أموال الوطن داخل الوطن من خلال إحلال الوظائف والتشجيع على الاستثمارات المتنوعة كمشروعات الترفيه؟ هل المطالبة بمعاقبة المتحرش جنسياً بخلق الله عن طريق تطوير وسائل المراقبة وتوكيل هذه المهمة للشرطة إضافة للهيئة يعتبر مطالبة لتغريب المجتمع؟ وهل المطالبة بالارتقاء بمعايير القيم والأخلاق بحيث لا نلاحق المرأة في كل زاوية ونعاقب بدلاً من ذلك الشاب المتهور الذي يتحرش بها يعتبر تغريباً؟ والله إن كان هذا سيأتي بمجتمع يغلب عليه التنافس نحو الإبداع والعطاء بين أفراده وتنتصر فيه الشيم والقيم العالية ممارسة وليس آمالاً ويرتفع فيه عصا الدولة ضد كل من يعتقد بأنه فوق القانون فكلنا نؤيده ونسعى إلى تحقيقه لأنه ارتقاء مطلوب بكل القيم والمعاني التي نفتقد لها اليوم.

الغريب أن من يتهم البعض بالتغريب لم يتحرك بعد لا من خلال البيانات ولا من خلال الندوات للحديث عن ظلم المطلقات اللاتي لا تحكم لهن المحكمة إلا بما لا يتجاوز 300 ريال بدل النفقة. والأغرب أن تواجد الرجال لبيع لوازم النساء الخاصة في المملكة لم يلفت نظر هؤلاء الإخوة المحتسبين وهو الوضع المرفوض عرفاً وأخلاقا حتى في أكثر الدول تحرراً.

في بوسطن يوجد ما يقرب من ستين جامعة مختلطة ومع ذلك لا ترى إلا الهدوء أينما تذهب. لم أشاهد الشباب في مطاردات تقفز السيارة أحيانا رصيف الشارع للاقتراب منها. جامعات تضم بينها أسماء من أعرق الجامعات في العالم. تتناول وجبة غداء في مطعم "تشيز كيك فاكتوري" في جادة هنتنغتن وهو مطعم هائل من حيث المساحة وعدد الطاولات بداخله لكن كل العاملين به هم من الطلبة والطالبات الذين يضطرون للعمل لتغطية تكاليف الدراسة. لا تحرشات ولا معاكسات بل امتهان كبير لتأدية الواجب الوظيفي بكل أدب وذوق واحترام. لا أظن بأنني مبالغ لو توقعت أن عدد العاملين بهذه الخلية وحدها يتجاوز المائة فرد. فكرت أن أتحدث للشركة وافتتح معهم مطعما مماثلا في الرياض أو جدة لكنني تصورت موضوع التأشيرات وضرورة الدخول في عالم الاستقدام فأزحت الفكرة عن رأسي في مهدها. يا ترى كم من العاملين السعوديين سيأخذ مكان الأجانب لو كنا نملك مثل هذه الثقافة في العمل وهذه المستويات في الإنتاج وهذه المهنية في التعامل بين الجنسين. صحيح أن هذه الوظائف مؤقتة وقد ينتهي منها الفرد بمجرد تخرجه لكنها بداية هامة لزرع أخلاقيات العمل وممارسته على الأرض. إنها تجارب إنسانية كبيرة للشاب والشابة لا يمكن الاستهانة بها أو إغفال أثرها المستقبلي.

أما لو تناولنا الحديث عن الفرص الغائبة عن المملكة والمتمثلة في حديقة كبيرة كحديقة "عالم ديزني" في اورلاندو فإن عدد العاملين هناك يقدر بمئات الآلاف ما بين موظفين ثابتين وموظفين مؤقتين حسب المواسم. لا تجد أجنبيا واحداً يعمل معهم. كلهم أمريكان ومن جميع الأعراق ومن بينها المسلمون حيث يتكرر منظر الفتاة المسلمة العاملة وهي ترتدي الحجاب. كم يوجد لدينا مثل هذه الصروح الضخمة؟ وما الذي يمنع المستثمرين من تشييدها؟ وهل سنتمكن من القضاء على البطالة ونحن نوصد الأبواب أمام مثل هذه الاستثمارات الخدمية الهائلة؟ إنه الخوف من إشكالية الاختلاط فالمستثمر لا يريد أن يضخ مئات الملايين من الريالات ويأتيه في اليوم الأول من الافتتاح محتسب أو اثنان ليفرضا عليه الفصل التام بين الجنسين بحيث لا يمكن للأسرة دخول المكان مجتمعة ثم لا تحرك الحكومة ساكناً أمام هذا التعطيل للنشاط. لدينا خصوصية لم أر لها مثيلاً في العالم وهي ابتكار يوم للذكور ويوم للإناث وننسى أن الرحلة الترفيهية أصلا هي للعائلة بأكملها وعندما نمزق أوصال العائلة فإن هذه العائلة لن تتشجع على العودة مجدداً.

أعود إلى ما بدأت به وهو أن النهضة الحقيقية التي نحتاجها في المملكة هي النهضة المتعلقة بالتنمية البشرية. نهضة أخرى متصلة وهي اقتصادية تشتمل على استثمارات متنوعة ومعها بالطبع إنتاج وظائف جديدة نحن بأمس الحاجة إليها. لو تحقق لنا هذا فسنشعر تلقائياً بأن القيم والأخلاق ومستويات الثقة بين الناس قد ارتفعت وأن الشكوك السيئة التي أثبتتها واقعة سوق برزان في حائل قد تلاشت وأننا قد نجحنا بفرض هيبة القانون والعقاب كما هي حال معظم شعوب الأرض. ما لم نقفز فوق هذه الإشكالات ونطور وسائل الرقابة مع التشجيع على انخراط المواطنين في سوق العمل والإنتاج بعيداً عن هاجس الاختلاط فلن يتحقق لنا أي تقدم على مستوى هذه التنمية وسنستمر في صراعاتنا البيزنطية ويستمر معدل البطالة في النمو وتزداد معدلات الفقر وتتضخم مع ذلك أشكال وفنون الجريمة. هذه حقائق لا يمكن تجاهلها.