بإحدى المرات التي تشرفت فيها بلقيا الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، استأذنته بتردد في سؤال شخصي: كيف استطعت طيلة تاريخك هذا في العمل في الدولة أن تحتفظ باستقلاليتك، لتبقى في الوقت نفسه واحدا من أهم رموز الثقافة وشجاعة التنوير؟ وقبل أن يتسلل إليّ الحرج، وخشية أن أكون قد تجاوزت حدود اللياقة، أجاب فورا، وكأنه قد تلقى هذا السؤال ألف مرة، قال مبتسما: "صدقني إذا قلت وكتبت ما تؤمن به سيحترم الآخرون مسافتك، حينها اعمل حيث شئت".

في سيل المقالات التي كتبت عنه عقب وفاته، وقد جمع ما أمكن منها صديق عمره الأستاذ عبدالرحمن السدحان في كتاب كبير، من 464 صفحة، عنوانه: "غازي القصيبي.. الحاضر الغائب في ذاكرة القلم"، قال عنه الدكتور محمد الرميحي في الصفحة 245، في مقالة كانت نشرت في الشرق الأوسط: "تجربة غازي القصيبي في دول الخليج عامة، وليس في السعودية خاصة، تجربة مثيرة للانتباه، ومحط تأمل أعمق من كونه شاعرا مرهفا، وكاتبا مبدعا، وإنسانا محبا للحياة، أو رجل دولة لا تلوثه المناصب. تجربة غازي التي خاضها بشجاعة هي أعمق وأكثر ثراءً، وهي المواءمة، أو محاولة المواءمة، بين الوطنية والتحديث، وهي تجسير لهذه الفجوة العميقة التي كانت وما زالت أساس التحدي في مجتمعاتنا بين سلطة تقليدية، ومطالب التحديث".

الدكتورة لطيفة الشعلان فيما مضى من تجربتها بمجلس الشورى كانت مثالا محترما آخر على هذه المواءمة الشجاعة، ومع انتهاء فترتها الأولى سجل كثيرون شهاداتهم، عبر موقع تويتر، شكرا وتقديرا تستحقهما. الغالبية تحدثت عنها بوصفها المرأة التي جعلت من موقعها أداةً إضافية مؤثرة لصالح ما تؤمن به، ولما كتبته وتكتبه في مساحاتها الأخرى. ترافعت ودافعت عن قضايا المرأة، تناولت معضلات التعليم، مسائل التمييز والفساد والتحرش، نقد الخطابات السائدة، وأولية الحق والحقوق، الفردية والسياسية.. الخ، وعلى الطريقة نفسها كانت المرأة التي لم يلوثها المنصب، لم تدر ظهرها لمهمتها الثقافية، لم تتخلّ عن استقلالها وضميرها. كتبت د. لطيفة في مايو الماضي بجريدة الحياة، منتقدة التعديلات على نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وخروجه دون المأمول: "هذه التعديلات لم تكن شكلية، بل جوهرية، مسّت مفاصل النظام في نسخته الأولى. كما أنها تضمنت عددا من الإلزامات والقيود التي تتنافى مع فكرة وروح القانون المنتظر، لإرساء مجتمع مدني قوي وحيوي يحقق علاقة مشاركة وتكامل مع الدولة. إن الدولة والمجتمع المدني ليسا على طرفي نقيض".

أخيرا وعلى الرغم من محدودية التجربة النسائية بشكل عام، في الأجهزة اللصيقة بتشكيل القرار، وما هي محاطة به من القيود، إلا أنها تجربة لافتة، ولحظة عالية تشبه وطنا نحلم به.