مرة أخرى، تدخل قضية العمالة الوافدة في السعودية دائرة الجدل. كلما طرأت حادثة ما طفت القضية على السطح، وكلما عولجت الحادثة بالتغافل أوالتحامل عادت إلى العمق حتى حين. ولأن العمالة الوافدة هي ربع سكان هذا البلد، ولأن أسلوب معالجة مثل هذه القضايا لم يتغير، فمن المحتمل أن تظلّ القضية ضيفاً دائم الحضور على ساحات الجدل، ووسائل الإعلام، ونقاشات الداخل والخارج. سيتخذ المنفعلون بالقضية مواقفهم بناءً على اعتبارات شخصية أو عامة، إنسانية أو شعوبية، أخلاقية أو مادية، مؤقتة أو دائمة. وستلقي الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية ظلالها على الموضوع. وسيسهم التاريخ والجغرافيا معاً في تعقيد الأمور. وسيختلط قصر النظر بطوله، وانتفاخ الذات بنكرانها، وقبول الآخر برفضه. سيتصدى للأمر ناشطون وييأس آخرون. وستتدخل سفارات ثم تتصالح الحكومات. وستتصاعد القضية حتى لا نسمع غيرها، ثم تخمد حتى لا نسمع عنها. وتظل الحقوق الفردية للضعفاء المقهورين معدومي الحيلة وقوداً إعلامياً سريع الاشتعال، ولكنه.. متطاير البقايا.

إن حدوث كل هذا متوقع ومعقول إذا أخذنا في الاعتبار الإطار العام الذي يتم من خلاله استقدام العمالة للعمل في السعودية، وما يتخلله من التنظيمات التي قلما تم تطويرها لمواكبة المتغيرات. ولكن استمرار هذه المشكلة منذ عقود هو الذي يستحق التوقف والتأمل. اليوم طفت القضية على السطح بسبب ما حدث للخادمة الإندونيسية المعذّبة. قبلها بأسابيع قليلة طفت مرة أخرى بسبب تغيّر شروط استقدام العمالة الفلبينية. وقبل ذلك كله خضنا وخاضوا في مشاكل الجالية البنجلاديشية. وما بين كل حادثة كبرى وأخرى سلسلة طويلة من الحوادث اليومية الصغيرة. والذي يهمّه أن يؤرشف هذه الحوادث ويؤرخ للجاليات الوافدة في السعودية منذ عقود فسيكتشف أنه لا توجد جالية واحدة منها لم ترتبط يوماً بمشكلة ما، أو تصطدم مع مضيفيها بطريقة أو بأخرى، بغض النظر عن عمق المشكلة أو عنف ذلك التصادم. وبغض النظر عن مصدر الخطأ هذه المرة، وما إذا كان كفيلاً سعودياً لا يدفع رواتب عمالته، أو عمالة وافدة تهرب من أماكن العمل. هذا إذا اكتفينا بالأرشفة، أما إذا تجاوزناها نحو القليل من التحليل فنجد أن هناك مسببات مختلفة لهذه المشكلة، وعوامل مختلفة لاستمرارها، وأبعادا معقدة لحيثياتها. كل هذا يلغي نظرية الحل الواحد، ويضعنا أمام مشكلة عالمية، بنسخة سعودية. ما الذي يجعل هذه القضية متجددة ومستعصية على الحسم يا ترى؟ منذ قرون طويلة جداً والبشر ينتقلون للعمل من مجتمعاتهم إلى مجتمعات أخرى. ومنذ الأزل والرحيل فعلٌ مرادف لطلب الرزق وتحسين مستويات المعيشة. واليوم، لا يوجد دولة واحدة في العالم تخلو من جالية أجنبية عنها تعمل فيها تحت ظروف مختلفة. حتى دولة (ناهو) التي تعد من أصغر دول العالم بعدد سكان لا يتجاوز الآلاف التسعة يوجد فيها جالية عاملة من الصين وأوروبا للعمل في المناجم، وفي دولة (بوتان) المتناهية الصغر يوجد جالية عاملة من نيبال والهند لفلاحة الأرض وشقّ الطرق. إنها ليست حالة طارئة ولا مفاجأة حضارية إذن، وثمة تراكم معرفيّ متعلق بهذه القضية تم استنباطه في دول كثيرة حتى خفّت حدة المشكلة، وتم تجاهله في دول أخرى لتظل القضية طافية على السطح كل يوم، إلا أن الشواهد العالمية تؤكد أنها مشكلة صعبة الحس وتجدد نفسها باستمرار، بغض النظر عن مكان وقوعها وظروفه.

مشكلة السعودية مع عمالتها الإندونيسية تختلف عن مشكلة إندونيسيا مع سيّاحها السعوديين. ومشكلة الممرضة البريطانية في السعودية تختلف عن مشكلة المبتعثة السعودية في بريطانيا. في كل الأحوال، توجد شبكة معقدة من التقاطعات السياسية والاقتصادية والثقافية تنسج نفسها كلما حلّت جالية ما في وسط مجتمع ما، أياً كانت المكان أو الزمان. وعند هذه التقاطعات تحديداً يُقدح الشرر، وتشتعل النيران. القانون هنا ليس إلا رجل إطفاء، بقدر جديته ومهارته يتمكن من إطفاء النيران قبل أن يحترق بأوارها المجتمع، ولكنه - كأي رجل إطفاء - بوسعه إطفاء النيران إذا اشتعلت وليس بوسعه منعها من الاشتعال أصلاً. قوانين دول مختلفة، مستنبطة من دساتير لا تفرق بين لون وعرق، لم تتمكن من حسم مشكلات المكسيكيين في أميركا، والباكستانيين في بريطانيا، والأتراك في ألمانيا، والفرنسيين في كندا، والكوريين في اليابان، والرومانيين في إيطاليا، والباسكيين في إسبانيا، والفلسطينيين في الأردن، والبدون في الكويت. كذلك هي عاجزة في السعودية عن حل مشكلة أكثر من سبعة ملايين وافد من عشرين جالية مختلفة! عندما تتعرض خادمة إندونيسية للتعذيب على يد مخدومتها السعودية، أو يتعرض رجل سعودي للنهب على يد سائقة البنجالي، كل هذه حوادث فردية يتعامل معها القانون بشكل حاسم، ولكن اختزال مشكلة العمالة الوافدة في السعودية في حالات جنائية هو تسطيحٌ للقضية العامة التي هي أعمق من ذلك (ولكن تبقى القضية الخاصة للخادمة ذات أهمية مطلقة لبعدها الإنساني طبعاً). السؤال هنا ليس كيف نردع مجرماً عن جرمه، وننصر مظلوماً على ظالمه، لأن هذا سؤالٌ يتكفل به القانون. السؤال الأهم هو: كيف نجعل من وجود ثمانية ملايين وافد بيننا تجربة حضارية نافعة تسهم في تشكيل مجتمع مستدام، متناغم ثقافياً، ومتكامل اقتصادياً، ومتسامح دينياً، تحت مظلة من العدالة الإنسانية؟

الأسئلة التي يمكن أن تتناسل من هذا السؤال الكبير كثيرة ومتشابكة، وإجاباتها تطلبت في أماكن من العالم عقوداً من النضال والكفاح، وفي أماكن أخرى حروباً دامية ومآسي كبرى. طبيعة السؤال تقترح أن الإجابة لا يمكن أن تأتي في سطر واحد، ولا في قانون ما مهما كان حاذقاً ومدروساً. إن تركيب قطعة بازل ضخمة بحجم ربع سكان البلد في مكانها الصحيح ليس مهمة سهلة، ويتطلب صياغة إطار كبير، تتداخل فيه معطيات الاقتصاد والثقافة معاً، وقيم العمل والتعايش. إن قدرتنا في السعودية على استقطاب عمالة مدربة وغير مدربة هي مورد تنافسيّ مهم، ولكنه في النهاية مرهون بطريقة استخدامه. إن العمالة الرخيصة نجحت قبل قرنين فقط في بناء أقوى دولة في العالم، الولايات المتحدة، والعمالة الرخيصة نفسها أدت إلى تدمير دول أخرى سياسياً واقتصادياً. أتمنى أن أتمكن في المقالة القادمة من تفريع هذا السؤال الكبير إلى أسئلة أصغر للمناقشة.