ما لا يخطئه المرء - أن الجنس البشري في سباق مع الزمن، وهو يتقدم نحو الهاوية بخطى سريعة. واليوم، يسعى جاهدا لمواجهة السقوط والتغلب على قوة الجاذبية، ويراهن على إمكانية النصر أو التكيف مع المستجدات. لم لا! وقد عُرف على مر التاريخ بقدرته على التكيف مع البيئة المحيطة مهما كانت صعبة وقاسية، فهو يعيش في الإسكيمو ودرجات الحرارة ما دون الصفر، وتمكن من العيش في الصحراء الكبرى والربع الخالي، في بيئة ترتفع فيها درجات الحرارة وتزيد عن 60 درجة مئوية، علاوة على ما يلاقيه هناك من شح المياه وقلة الزرع، وضنك العيش.
ومنذ بدأ التاريخ، دأب على البحث عن آلات ووسائل تعينه في صراعه مع الطبيعة ليتجاوز الظروف القاسية التي يعيشها. طور آلة الصيد وحسن أساليب الزراعة، وواصل تطوير قدراته الصناعية حتى بنى المركبات ووصل إلى الفضاء. ووظف معارفه الجديدة ليكيٌف نفسه مع ما لم يكن بوسعه مغالبته، كتقلبات الطقس وغوائل الطبيعة، فسكن المرتفعات، وقريبا من مصادر المياه، وتخير الأماكن الآمنة، واخترع نظما لتكييف الهواء، وبنى السدود وحفر الآبار، وطار في السماء، ووصل إلى أعماق البحار. لكنه في هذا كله كان يفرط في استهلاك الموارد الطبيعية، حتى ما لا يتجدد منها كالنفط والمعدن. ووصل بلا مبالاته وجشعه إلى مفترق طرق. فهو اليوم قريب جدا من الهاوية، وبات مرجحا أنه سيسقط، إن واصل تقدمه بنمط الحياة الذي اعتاد عليه.
لقد ألف أن يلجأ في كل مرة يواجه فيها عنف الطبيعة وغضبها إلى توظيف المعارف التي اكتسبها وما تراكم لديه من خبرات لتحقيق النصر في حربه معها. وكان يخرج دائما، إن لم يكن منتصرا، سالما من غوائلها. لم يكن يعرف، أو تجاهل أنه في سعيه الحثيث لمغالبة الطبيعة، إنما كان ينمي عدوا جديدا، ما لبث أن صار غولا يهدد بقاءه على هذا الكوكب.
كم دفع إلى طبقات الجو العليا من ملوثات عضوية وكيماوية ومن غاز الفريون، حتى ثقب طبقة الأوزون، الدرع الواقي من الأشعة فوق البنفسجية، التي تتسبب في سرطان الجلد وتلف الشبكية، من بين قدراتها العديدة الأخرى على الإضرار بصحة الإنسان. في حينها أدرك أن علومه ومعارفه ليست كافية لترقيع الثقوب التي صنعها، وعاد مهزوما لا يعرف حلا للخروج من مأزقه سوى الإقلاع عن حماقاته وتحسين سلوكه نحو البيئة. واعترف بعجزه – وكان أجدى له أن يسلك هذا الطريق ابتداء.
هو اليوم وكأنما يصارع نفسه للبقاء على هذا الكوكب، يقذف أولا بملايين الأطنان من الغازات الدفيئة إلى الغلاف الجوي، فترتفع درجة حرارة الأرض، التي تثأر لنفسها وترد عليه بقوة الأعاصير والزلازل والبراكين، وتقتله حيثما ثقفته، ثم يعلن الحرب على ظاهرة الاحترار العالمي ويحاول الابتعاد عن استخدام النفط بعد أن تيقن أن الحرب الكبرى التي كان يخوضها ضد الطبيعة خاسرة، ولا سبيل له اليوم إلى النصر فيها بما يمتلك من تقنيات. هذه المرة أخفق في حربه مع الطبيعة وفشل في كوبنهاجن وسيكرر الفشل في كانكون، عندما يجتمع للاتفاق على مصالحتها، والحد من إنتاج الغازات الدفيئة.
فشل أن يتبنى سياسات المصالحة مع الطبيعة، التي لم يتعود عليها، وظن دائما أنه السيد، يرجع إليه كل قرار، واعتد بعلومه وتقنياته واغتر بقدراته الزائفة أمام القوة الحقيقية التي أودعها الله في الطبيعة لحماية نفسها فقط من حماقة الإنسان. فالكائنات جميعا تعيش حياتها في تناغم مع إيقاعات الطبيعة الهادئة، بينما تمرد الإنسان على النظام الإيكولوجي والطبيعي، وسيلقى جزاءه وافيا.
هو لا يعتبر! أنواع كثيرة من الكائنات الحية تنقرض سنويا بسبب التلوث، لا يكترث لها، ولا يبكي عليها سوى حفنة من المتظاهرين في شوارع أوسلو أو أمستردام، وبعض الباحثين المهتمين بالتنوع الحيوي.
لا أحد يجهل اليوم أنه بفقدان نوع واحد من الكائنات الحية، مهما صغر حجمه أو قل للإنسان نفعه، يختل التوازن الإيكولوجي لكوكب الأرض. قد لا نشعر به لحجمه مقارنة مع النظام الكبير، أو لبعده الجغرافي، أو بسبب التعقيد الشديد الذي تتميز به العلاقة البينية للكائنات الحية المختلفة، فيما بينها ومع البيئة المحيطة. وقد يتضاعف الأثر ويشتعل فتيل الحرب، وتبدأ سلسلة الكوارث التي جاء منها النذير في صورة التسونامي وثورة البراكين وحركة الأرض وزلازلها.
لقد أفلست مملكة الإنسان وتقنياته، ولم تعد مناوراته التقليدية كافية لتحقيق النصر أمام عدو جاء غاضبا ومسلحا بما لا طاقة لنا به. فهل يتصالح الإنسان مع الطبيعة؟، وتحتضنه مرة أخرى، أم إنه سيخوض معها حربا أخرى، لا ضمانة للنصر فيها، وقد تكون نهايته!. نحن نراقب الطبيعة، وهي تتربص بنا، وسيأتي اليوم الذي تضرب فيه بعنف، ولا تذر على الأرض من شيء. فهل يتدارك الوضع، ويتصالح؟
أظن أنه قرر خداعها. فهو وإن بدا يسعى للصلح معها، إلا أنه في وعيه ليعيد تنظيم جيوشه، ويعد العدة وينقض ثانية عليها، ويغدر بها ... أو ليتمكن من الهرب عندما يُهزم. وما أبحاث تقنية النانو والهندسة الجينية وبرامج غزو الفضاء، إلا أسلحة المستقبل التي سيخوض بها الإنسان حربه لإذلال الطبيعة. فهل تمهله حتى يتملك سلاحه الجديد، ويتمكن منها؟