التراث بوصفه إنتاج الفكر البشري وجهده الموروث في التصور والقياس والحُكْم، ليس معزولا عن المعاصرة والحضور ومقطوعا عنهما. ذلك أن الحاضر ينبثق من الماضي؛ فالحاضر –فيما رأى هايديجر- ليس إلا استشراف الماضي، وتحقُّقه الذي أصبح حاضرا، وهكذا يحدث المستقبل؛ فهو استشراف الماضي والحاضر. لكن التراث، على هذا النحو، يمكن أن يكون عقبة في سبيل التحقُّق والحضور، وفي سبيل المستقبل، وسجنا يحجز عن المجاوزة والحركة. كما يمكن أن يكون مفتاحا لذلك، وأداة له، وسببا باعثا عليه. ولهذا كان حضور التراث في الفكر الإنساني إشكاليا بالضرورة؛ لأنه يحضر، فقط، ضمن الوعي بالمعاصرة، أي في قبالة التغير والتجدد في الوجود. وهذا حضور للتراث وللمعاصرة على مستوى التصور والفهم وليس على مستوى الوقائع والتاريخ. فهو حضور إشكالي –إذن- بسبب تعدد الرغبات والوجهات وتصارعها في المفاهيم والأيديولوجيات والأذواق وما يتبعها من اكتساب المصالح وحماية المكتسبات لدى الوجهات المفترقة والمتعددة. وهو حضور جوهري – أيضا - لأنه في اللب من مختلف وجوه الصراع الفكري والعقائدي والثقافي التي تحدث في المجتمعات القديمة والحديثة: صراع الذات والآخر، صراع الجمود والنهضة، صراع القدامة والحداثة، صراع التقليد والإبداع، صراع الهوية، وصراع المعرفة، وصراع القوى الاجتماعية... إلخ. نعم، كان تاريخ النهضات الثقافية والحضارية في القديم والحديث، وفي الشرق والغرب، بما فيها الثقافة العربية الإسلامية، يبدأ من العودة إلى "التراث"، ولكنها عودة مأزومة بالبحث عن أفق للتجدُّد والنهوض، وليس للمتابعة والتقليد. فكانت كل مرحلة نهضوية مرحلة صراع مع القديم ومضادَّة له من وجه، واكتشافا له وانغراسا فيه من وجه آخر. هذا الصراع والتأزم، اللذان يَسِمَان حركات النهضة والتجديد والإصلاح، يعنيان أن التراث الذي لا تقوم تلك الحركات إلا بإزائه وفي العلاقة معه، ليس وعاء يمكن اغتراف مادة جاهزة منه، وليس مادة صلدة واحدة. كل موقف من التراث، حتى لو كان موقف متابعة قصديَّة له، هو موقف اختلاف معه؛ لأنه موقف قراءة، وقراءته تعني حضور ذات مختلفة لتمييز مستوياته، والاختيار منها، وتأويله ونقده؛ فهي قراءة ليست معزولة عن عصرها. التراث – ما دام الأمر كذلك - متعدد ومختلف؛ فالتراث الذي ننطقه بالإفراد، وب"أل التعريف" تراثات مختلفة، في واقعه، وفي تصوره، وفي إعادة التشكيل له. وبالقدر نفسه لم يكن التجديد ومرادفاته ولوازمه ومشتقاته، موقفا واحدا صلدا متجمدا، ولو كان كذلك لما كان إشكالا. لذلك كان هناك قراءات متنوعة للتراث (إحيائية، وجدانية، يسارية، حداثية، قومية، وطنية، إسلامية... إلخ) ولم تكن هذه القراءات تتضارب فيما بينها فحسب، بل تتضارب مع ما يناقضها في التراث، وتتضارب داخل كل وجهة منها على انفراد. يتضارب التراث في هذه القراءات، ويتضارب التجديد أو المعاصرة أو الحداثة بحسب التسمية التي تقابل التراث. إن التحرر من إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة، يكمن في تجليتها؛ لأن تجليتها تفكك وتنقض أبرز سببين يجعلانها إشكالية: الأحادية في المفاهيم والمواقف، والتراتب الذي تنطوي عليه ثنائية المعاصرة/ التراث. فإذا فكَّكنا هذين السببين ونقضناهما، تفككت الإشكالية واندرج طرفاها في التعدد والاختلاف، ولم يعد هناك تراث واحد ولا جِدَّة أو معاصرة أو حداثة واحدة. التعامل مع التراث ضمن صفته الإشكالية تلك، هو مثل التعامل مع الحداثة في تلك الصفة، يوحِّد كلا منهما في مفهوم، وينفي عنه الاختلاف والتعدد. فيتسيَّد جانب منهما ليحجب غيره أو يهمشه، ويكون الحديث المتداول –حينئذ- عن التراث أو الحداثة محدَّدا في وجهة المتعصبين للتراث ضد الحداثة، أو المتعصبين للحداثة ضد التراث، في هذا الوجه المتسيِّد دون غيره. كان النهضويون الإصلاحيون، وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده، منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، يصارعون، في سبيل النهضة، رأيا تراثيا متسيِّدا يشنِّع على تدريس علوم العصر، بما فيها الجغرافيا والطبيعة والكيمياء والفلك، بالاتكاء على حجج دينية. وكان أولئك النهضويون المشايخ يواجهون موقف الرفض للحداثة والتجديد، بالاتكاء –أيضا- على حجج دينية، وباستحضار منظور آخر للتراث، أكثر استنارة. كان التجديد في الشعر على يدي نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، يخرج إلى شكل "التفعيلة" بمقاومة رأي متسيِّد لا يرى الشعر في التراث إلا بأوزان تناظرية مقفَّاة. وكانت مواجهة نازك والسياب وأمثالهما لهذا الرأي المتسيِّد، تحاجج بما في التراث نفسه من أشكال غير ما وقف عنده عِلْم المتوهمين بالانتصار للتراث والحماية له. ولقد كان الرأي المتسيِّد تراثيا -في أشد تجلياته غلواء- سجنا مَحْجَريا للوعي لا يحجز عن العصر فحسب، بل كذلك عن الحيوية في التراث نفسه، على النحو الذي تنبه إليه مالك بن نبي في قوله: "بالنسبة لهؤلاء الناس؛ الذين يبدون الاهتمام بالأصولية في عالمنا الثقافي ينبغي أن نسدَّ منافذ هذا العالم لنحمي أنفسنا من العدوى، وعلينا أن نُراقَب في نظرهم، لا بل أن نحبس تنفسنا الفكري وأن نضع في النهاية على آذاننا أقنعة واقية كيما نتجنَّب أية عدوى محتملة". ولا يختلف الأمر في شأن التجديد والحداثة؛ فالتصور المتسيِّد للحداثة الذي حصرها في العلم والتقنية، هو مثل من حصرها في الشعر وفي قصيدة النثر. ولذلك كانت حداثة الحقوق والعدالة والقيم والغايات الإنسانية، موضوعا من أبرز موضوعات معركة النقد للحداثة في معقلها الغربي، بحيث لم نعد هناك بإزاء معركة بين القديم والجديد فقط، بل بإزاء معركة الجديد نفسه الذي يتعدد ويختلف مثلما تعدد القديم واختلف. هكذا ليست الإشكالية في جهة سجن الفكر وحجزه عن الاختلاف والغنى والتطور في جهتي التراث والحداثة على حد سواء، بل تتعدى ذلك إلى حجب التراثيين عن التراث الذي يتوهمون شدة اتصالهم به وتقديسهم له، وحجب الحداثيين عن الحداثة التي يتوهمون عبوديتهم لها. إن الإشكالية ليست في ما بناه التراثيون من صورة للتراث، ولا الحداثيون من صورة للحداثة؛ فكل صورة ذهنية مبنية على الاختيار والتركيب والتأويل، وإنما تكمن المشكلة في مجاوزة الفريقين ذلك إلى نفي غيرها من الصور الفعلية والممكنة للتراث والحداثة. وأظن أن حدة التنافي والصدام التي بلغت حدا عنيفا –فيما نرى ونعيش- بين الوجهات الثقافية والإيديولوجية المختلفة، وفشل مشروع النهضة العربية، وانحباسها في قمقم الصراع الصوري البيزنطي، أبرز الدلائل على أهمية تلك الإشكالية وضرورة تحرير الوعي منها. ولن يتحرر الوعي إلا حين يتجدد، لكن التجديد لا يكون في المعاصرة والحضور ما لم يكن في التراث وفي الذاكرة؛ فكل تجديد في المعاصرة، هو تجديد في الرؤية إلى التراث، وكل انحباس عن المعاصرة هو انحباس في النظر إلى التراث وفي فهمه.