كان مساء الجمعة الماضي التاسع من ديسمبر يوما لا ينساه الخليجيون، السعوديون منهم بشكل خاص. في تلك الليلة احتفت دولة الكويت الشقيقة والقريبة في القلب والمكان بزيارة الملك سلمان عبدالعزيز لها في نهاية جولته الخليجية التي بدأها قبل وصوله للكويت بأيام، زار فيها دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين. وكانت كل دولة تستقبل الملك سلمان بحفاوة الصديق وكرم الأخ، وشغف المحب كما يليق بمكانته بين إخوته في دول الجوار. لكن احتفاء الكويت يوم الجمعة كان فارقا جدا ومميزا حتى أحرجنا. وفتح أعيننا مجددا على غربة الفن في أوطاننا التي تحدثنا عنها مسبقا، وجسدتها إحدى اللوحات الفنية في الحفل الذي حضره الملك سلمان ومرافقوه في دار الأوبرا الكويتية، أو ما يعرف بمركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي.

لوحة فنية اختزلت في صورة سريعة بارعة ذاكرة جيل كامل بتمرير قرابة الخمس عشرة أغنية سعودية، قدمت في جرعة مكثفة من الجمال عرضا راقصا متناغما يتماهى مع تلك اللوحة، ورفعت صوت تصفيقنا وطربنا برفقتها. كانت الأغاني تتوالى في وميض سريع من "هلا بالطيب الغالي" مرورا بـ"ريم وادي ثقيف" و"من بادي الوقت" و"تنشد عن الحال" حتى "هاوي حنانك" و"سليّم يا سليّم" وانتهاء بـ "سهيل الجنوبي" و"فوق هام السحب"، ونحن من خلف الشاشات نتمتم "لنا الله" في "زمان الصمت"، خاصة وأن الشاشة تومض خلف العرض في "بحر من الإثارة" وتتوالى عليها صور شعرائنا ومطربينا كطلال مداح ومحمد عبده وراشد الماجد وعلي عبد الكريم وبدر بن عبدالمحسن وخالد الفيصل، وغيرهم من رواد الساحة الفنية بالكلمة والصوت التي شاءت لهم ولنا الـ"مقادير" أن نبحث عنهم خارج الوطن، ويلتقوا بجمهورهم الظامئ لهم على مسارح بعيدة، وعند الآخر ولو كان هذا الآخر قريبا تجمعنا معه المصلحة والمصير والحدود.

لقد أحرجتنا الكويت وهي تحتفي بطريقتها، وتنشغل بالفن لأجل الفن وتعيده لذاكرتنا التي جففت منابع الجمال فيها تيارات الصحوة الغافية في أحضان التصحر والجفاف، أعادت في خمس دقائق ذائقة جيل كامل تفتحت أعينه على النغم الرقيق والكلمة الشفافة والأداء الدرامي الهادف، الفن البعيد بسموه عن أي تأويلات أو صراعات حول أحقيته في حياتنا أو عدمه. أحرجتنا بتصالحها مع الممكن والمعقول وفتحها الدائم لذراعي الكرم والجمال لنا كأشخاص، ولفنوننا التي تلملمها الدول وتفتح لها الساحات والصدور، ونقف لها ملوحين بعد كل جرعة فن نتعطش لها ونغنيها "أحبك لو تكون حاضر، أحبك لو تكون هاجر". وأجزم أن الكثير مثلي سرح وقت عرض تلك اللوحات أو بعدها بقليل متخيلا هذا المركز في أبها أو الرياض أو جدة وتقام عليه نفس الفقرات وبنفس الآلية والتفاصيل، سواء أكان في استقبال ضيف كبير أو لأجل الفن وحده، ثم نفزع من الاسترسال في الخيال، ونسخر من الأحلام التي يكذبها الواقع ونتوقف عند التمني ونغني لفننا الحاضر الغائب: "إبعاد كنتم وإلا قريبين المراد إنكم دايم سالمين!".

هل ينبغي أن نتحدث عن الفنون في وطننا بهذا الانهزام والتشاؤم؟ الواقع يقول نعم؛ ولو أردنا التنظير كأفراد حالمين فسنقول إن فيما حملته لنا الرؤية 2030 وما صاحبها من برنامج للتحول الوطني يحملنا على التفاؤل والتوقع أن تتخذ الفنون لدينا مكانة أفضل، وأن تعنى وزارة الثقافة والإعلام بكلا الجانبين في مسماها: الثقافة وما يندرج تحتها، والإعلام وما يقدم خلاله وبمختلف قنواته، بشكل مستقل وخاص لكل منهما، خاصة وأن إعلان الرؤية صاحبها إعلان لإنشاء هيئة عامة للثقافة وأخرى للترفيه، وما يتوقع مع هيئة الثقافة والترفيه أن تحقق مجتمعة جميع الرغبات للمواطنين، من يريد منهم مسارح تمثيلية أو استعراضية، غنائية أو موسيقية، أو يرغب بوجود سينما وصالات عرض دائمة للفنون ومتاحف متنوعة. كل هذه الأحلام الوسيعة والرغبات الملحة التي يلاحقها الكثير من المواطنين خارج الوطن نفقد الأمل في تحقيقها حينما نسمع مرة بعد أخرى عن معارضات دائمة لأي أفكار فنية وترفيهية، ونُصدم بإلغاء فعالية فنية بحجج مفتعلة وحملات شرسة كان آخرها إلغاء فعالية "الستاند أب كوميدي" التي كان مقررا إقامتها يوم الجمعة القادم على مسرح جامعة الأميرة نورة للبنات في الرياض، والتي كان سيشارك فيها الفنان الكوميدي الأميركي مايك إيبس. أيا كانت المبررات التي لا تتفق مع واقع الاحتياج لترفيه واع وفنون أصيلة ورغبات ملحة وضرورية، فإننا نفقد الأمل فيما سيأتي من رعاية للفن وإعادته لوطنه، ونقول مرة أخرى لإحدى الجهات من العالم حولنا وأعيننا عليها وهي تستعرض بمواردنا البشرية من الفنانين والمبدعين وقلوبنا كمالك الحزين تطرب وتبكي: "أحرجتنا يا ...".