يروي الزركلي أن فيلبي سأل عن كلمة الموسيقى فقيل له ليست عربية وإنما هي فارسية، فقال فيلبي: "ما أبخلكم! كلمة تعيش عندكم ألف عام، ولا تزالون تعدّونها دخيلة (الزركلي، شبه الجزيرة العربية، بيروت 1970م، ج4، ص 1360).

هذا القول المنسوب إلى فيلبي ينطبق على الموقف الذي اتخذه بعض الإخوة في الحجاز من عدم استحسانهم لتسجيل رقصة المزمار في لجنة التراث العالمي غير المادي باليونيسكو؛ لأنها غير ذات أصل سعودي، ولو طبقنا هذا المبدأ، ونبذنا كل ما ليس له أصل سعودي فإننا سنجرّد متاحفنا من كل ما فيها من معروضات متمثلة في الأسلحة والأواني والمنسوجات والمشغولات التي هي في الأصل مستوردة. ولَنَكَصْنَا وارتددنا على أعقابنا نحن الذين ندرس في جامعاتنا مادة التواصل الحضاري فيما بيننا وبين شعوب العالم من حولنا، ولغيّبنا فرحتنا التي كانت تغمرنا حينما نكتشف في حفريات الفاو (عاصمة نجد في زمانها من سنة 200 قبل الميلاد إلى سنة 200 ميلادية) نماذج من منتوجات الحضارات المصرية واليونانية والرومانية، ناهيك عن الفارسية والهندية، ولزهدنا في كميات كبيرة مكتشفة من الخزف الصيني التي عُثر عليها في الحفريات الأثرية التي أجرتها وتجريها جامعاتنا وهيئة السياحة والتراث الوطني والبعثات الأجنبية العاملة معها في أمكنة كثيرة من المملكة، ثم ماذا سيكون موقفنا من الغناء البحري والمجَسّ واليماني وحتى المقامات الموسيقية، لن يبقى لنا منها إلا مقام الحجاز؟

إن التواصل الحضاري بيننا وبين الأمم قديم قدم الأمم نفسها، وازداد ذلك التواصل بعد ظهور الإسلام، ونقل علوم الهند وفارس واليونان والرومان إلى اللغة العربية، مما كان سببا في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وتأثيرها على الغرب الذين أفادوا من نهضة العرب والمسلمين في نهضتهم الحديثة.

ونتج عن التواصل الحضاري فيما بيننا وبين الشعوب المجاورة أن اقتبس العرب كثيرا من عادات تلك الشعوب، وتقاليدهم التي تأثروا بها، وأثروا فيها، بل إن الاحتفال بالنوروز، وهو تقليد فارسي أصبح يحظى باهتمام الخلافة العباسية ورعايتها، خصوصا أنه يصادف استيفاء الخراج الذي تقوم عليه موازنة الدولة في زمانه (حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي، ط7 1964، ص439). وكانت النقود الفارسية والبيزنطية بما عليها من شعارات وثنيّة وكنسيّة متداولة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين، ولم تُعَرَّب تعريباً كاملاً إلا في عهد عبدالملك بن مروان سنة 77هـ. ومع ذلك احتفظ قرآننا الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين باسميهما الأعجميين كما كانا، فقال تعالى :(ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما). وقال أيضا: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة)، وظل الاسمان متداولين على عملات بعض الدول العربية حتى اليوم، ولم ينكر أحد كونهما تسميتين غير عربيتين.

أما في الحجاز -وبصورة خاصة مكة والمدينة- فكان الاختلاط بالأعاجم فيهما كبيرا جدا، والتأثر بعاداتهم وتقاليدهم ومأكلهم وملبسهم ورقصهم وغنائهم ملحوظا بدرجة أكبر، حتى إن بعض ما كان يلبسه فتيان مكة من زي العجم كان محل استهجان من بعض الصحابة والتابعين، ومن ذلك لبس السراويل (البابطين، الحياة الاجتماعية في مكة، الرياض: 1419هـ، ص 318).

وبين يدي في أثناء كتابة هذا المقال سفر يضم أكثر من 500 شاهد قبر منقوش لمتوفين عاشوا في مكة المكرمة، وماتوا ودفنوا في مقبرتها الشهيرة: مقبرة المعلاة، خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة النبوية الشريفة. هؤلاء منسوبون إلى أقطار شتى من العالم الإسلامي -حينذاك- قدموا إلى مكة، حاجين ثم مجاورين لبيتها العتيق حتى توفوا. وهم وإن لم يكونوا من أصول عربية، فمنهم من هم عربيو اللسان، ومنهم علماء وتجار وصناع وفنانون، ومنهم إماء تَسَرّى بهن أسيادهن فولدن لهن، وأصبحن حرائر، وبعضهن من الجنس الأسود، وأمهات لبعض مشاهير القوم في زمانهن (انظر: ابن عنبة، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، ص116).

أما المزمار الذي هو من الرقصات الشعبية الشائعة في بعض مدن الحجاز فنقدّر أن وجوده يمتد لمئات السنين، وهي رقصة حماسية مغنّاة، وقد اُختلف في أصولها، فمن قائل إنها إفريقية، ومن قائل إنها هندية، ويجد المرء نفسه أميل إلى الرأي القائل بأنها هندية؛ لأن الهنود أكثر من سكن الحجاز من الأجانب، وكان لوجودهم فيها شأن عظيم كونهم من الرعايا البريطانيين الذين يحظون برعاية القنصلية البريطانية في جدة، وهي من أكبر القنصليات في زمانها؛ ولأن إيقاعها بطيء كإيقاع الهنود، ويجلس الطبّالون على الأرض على عكس إيقاع الأفارقة المتصف بالخفة وتسارع الحركات.

ويقرب من تأثيرات الطرب الهندي على الطرب العربي الصوت البحريني، والصوت الينبعاوي، فكلاهما إلى جانب المزمار تعتمد على طبول معروفة في الهند وليس في إفريقيا. أما وجود النار في وسط الحلقة فربما تعود إلى طبيعة الرقصة التي تحتم على الراقصين الاستمرار في رقصهم دون توقف؛ ولأن الطبول من الجلد فلا بد من تحميتها على النار بالتناوب بين الطبالين في أثناء الرقص واحدا تلو الآخر، فضلا عن أهميتها في إضاءة المكان الذي كان في الغالب برحات غير مضاءة، ومهما يكن من أمر أصول رقصة المزمار، سواء من إفريقيا أو من الهند، فإنها بعد كل هذه المدة الطويلة من الشيوع في بعض مدن الحجاز، وبعد مئات المقاطع الشعرية باللغة العربية التي صاحبتها في أدائها الراقص، وعلى رأسها أنشودة: "يا الله يا والي تحفظ ملكنا" التي صدحت بها حنجرة طارق عبدالحكيم قبل 60 عاما، فإنها بعد كل ما ذكر تعدّ في تقديري رقصة فلكلورية سعودية، وأن تسجيلها في لجنة التراث العالمي هو حق من حقوق المملكة العربية السعودية لا يستطيع أحد أن يدّعيه.