تلقيت اليوم اتصالات من الدكتور المعزوز والدكتور علي وهما من الأساتذة العرب الكبار. وقد بادراني بالحديث عن حنينهما إلى جلسات مؤتمر مؤسسة الفكر العربي الأخير في أبوظبي، إذ كانا في مقدمة الاستشاريين الذين أحاطوا المؤتمر بجهدهم وعنايتهم الفكرية قبل المؤتمر وخلاله. وهذا يحسب للأمير خالد الفيصل الذي أراد أن يكون مؤتمر الفكر العربي تعبيرا عن جهد فكري يسهم فيه كل المشاركين. وألا يقتصر الفكر على السادة المتحدثين الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، في حين يبقى المئات في قاعة المستمعين دون تفاعل أو تدخل أو نقاش أو حوار.

وقد كانت إرادة الأمير خالد الفيصل واضحة جدا في كلمته المختصرة والمتضمنة أوجاعنا وأزماتنا وتناقضاتنا، كما تضمنت السبيل لخروجنا مما نحن فيه وبلوغنا ما نصبو إليه.

ثلاث كلمات اختصرت خارطة الطريق "فكر نهج جديد"، أي أن نفكر بما يجب علينا القيام به، وألا نكتفي بحسن التعبير فقط، بل بحسن التدبير أيضا، أي أن نفكر ونعمل وهذا ما لم نعهده في حاضرنا الفكري، لأن المفكّر فيه غير قابل للعمل على أساسه، وأن ما نقوم به في أغلب الأحيان غير مفكر فيه. والحديث عن فكر نهج جديد مرتبط بالأزمات التي تحيط بواقعنا الفكري. ولقد كان الفيصل دقيقا عندما وضع التقابلات في كلمته الافتتاحية للمؤتمر، بين التكفير والتغريب، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين التشدّد والانحلال، مما أسس لضرورة استحداث فكر نهج جديد.

إن المنهجية العملية لهذا التوجه كانت تستدعي التحفيز على التفكير لدى جميع المشاركين، وتوحيد الجهد كي تتآلف الطاقات الفكرية وتتفاعل. ولهذه الغاية كان لا بدّ من إعادة الاعتبار لثقافة السؤال التي فقدتها مجتمعاتنا ومفكّرونا ومثقّفونا منذ عقود طوال، عندما اعتقدوا أن السؤال هو من حق الدول والشعوب المتقدمة، ونحن علينا فقط تعلم إجاباتهم على أسئلتهم، وهذا ما أضاع أجيالا من النوابغ والطاقات العربية في عملية استلاب بالمنتج الفكري الغربي، مما أحدث حالة من العجز لدى أجيال كثيرة عن المبادرة والسؤال. فكان التوجه الأول في المؤتمر هو أن يلتقي جميع المشاركين على تنوعهم واختلافهم في إطار تفاعلي كمجموعات عمل، ليتفاعلوا فيما بينهم ويدخلوا في تجربة مشتركة لصناعة السؤال الذي لا يتضمن إجابة مسبقة.

إن استحداث فكر نهج جديد كان يستدعي بلورة عملية لكي تصبح في صلب ثقافة المجتمع، لأن الفكر والنهج ليس المقصود بهما النخبة التي تعتمد أصلا مناهج خاصة بها، إنما المستهدف هم عموم العرب بكل مجتمعاتهم وأعمارهم وأوطانهم وانتشارهم، فكان لا بد من تحديد آليات تتحمل مسؤولية صناعة هذا الفكر وتعميمه ليصبح نهجا جديدا.

فتمّ اختيار العلاقة بين الإعلام والبحث العلمي موضوعا للتفكير والسؤال، وكان هذا الموضوع محل تصور مسبق لدى الأمير خالد الفيصل، من خلال توجيهه لإدارة المؤسسة حول تطوير منظومة البحث العلمي لديهم، وإصراره على أن تكون بإشراف سموه شخصيا.

كانت الهيئة الاستشارية المواكبة لانعقاد المؤتمر تجتمع بشكل دائم. ووصلت نقاشاتها إلى مناطق حرجة في كثير من الأحيان، وخصوصا في موضوع التمييز بين استخدام تعبير العلم أو البحث العلمي، إلى أن جاء لقاؤهم مع سمو الأمير عشية الجلسة التفاعلية، وحديث سموه معهم عن أهمية الدراسات والأبحاث التي تنطلق من واقعنا وتراعي قيمنا وثقافتنا وتلبي احتياجات مجتمعاتنا، مع تأكيده على أهمية ما حققه العلم من تقدم واكتشافات بما هو إرث بشري متراكم، كان لكل الشعوب بدون استثناء مساهماتها وإضافتها فيه. وأن العلم -بلا شك- هو ملك للإنسانية جمعاء.

دخل العرب في فكر نهج جديد يوم الإثنين 12 ديسمبر 2016 الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر. وكان سمو الأمير خالد الفيصل أول الحاضرين وآخر المغادرين كعادته في كل المؤتمرات. توزع الجميع على 30 مجموعة بحيث لا تزيد أي واحدة منها عن 10 أشخاص. ولقد سجل بعض الغياب البسيط، وأجاب كل واحد من المشاركين على استبيان تمهيدي يساعد على استعادة الذاكرة الفردية حول موضوعات الظرف والإعلام والبحث العلمي. وكان المطلوب أن تدخل كل مجموعة في تجربة صناعة سؤال واحد حول البحث العلمي والإعلام. لم يغادر أحد القاعة حتى انتهاء الساعتين المخصصتين لجلسة التفاعل، وكانت النتيجة إنتاج 89 سؤالا بدلا من 30! 

إن ما يقرب من 200 عربية وعربي شاركوا في الجلسة التفاعلية، وهم من وظّف 5 أيام من حياتهم لحضور المؤتمر، يوم قدوم ويوم ذهاب، و3 أيام في المؤتمر، والتي تساوي 1000 يوم، أي ما يقارب 3 سنوات من عمر مجموعة عربية. فكان يجب أن تكون لها نتائجها الملموسة كبلورة لفكر نهج جديد. وهذا ما كان في الجلسة الختامية للمؤتمر الساعة العاشرة من صباح الأربعاء 14 ديسمبر 2016، حين وقف الأمير خالد الفيصل وهو يحمل بيده بحثا علميا دقيقا من 25 صفحة يتضمن نتيجة الاستبيان الذي أجابوا عليه في جلسة يوم الإثنين، وقائمة بالأسئلة المقدمة من مجموعات العمل مع تحليلها وتصنيفها، مع نتائج الأجوبة بالنسب المئوية الدقيقة بما يليق بالفكر العربي والجهد العربي والإنسان العربي، ويعزز الثقة بالنفس وبالآخر وبمؤسسة الفكر العربي.

وقد ختم سموه قائلا: إن هذه النتيجة جاءت نتيجة عمل مفكرين ونخبة من الشابات والشباب الواعدين، هذه المجموعة التي لم تعرف النوم لثلاثة أيام، كتجسيد لفكر نهج جديد.