من يتأمل جغرافية دول مجلس التعاون الخليجي، ويقرأ تاريخها، ويقلب صفحات ماضيها، ويتتبع مراحل حياة إنسانها، وأصوله القبلية، وهجراته وتنقلاته الداخلية، واستقراره المحلي على السواحل، وفي الصحراء، وعلى شوامخ الجبال، ومن يستقصي أساليب معاشه، وموروثه الحضاري والتراثي يدرك بما لا يدع مجالا للشك أن وطننا واحد، وأن أصولنا مشتركة، وعيشنا مشترك، وبالتالي فمصيرنا مشترك.

الثّوب شعارنا، والمشلح دثارنا، والغترة والشماغ والمَصَرّ والعقال هويتنا. نجلس على الأرض، ونأكل بأيدينا، ونلعق أصابعنا، ونعفر أيدينا بالتراب إن لم نجد الماء والصابون.

نقري الضيف، ونفك العاني، ونجير المستجير، ونعين من هو في حاجة إلى عوننا، ونحافظ على الصداقة والأخوة والوفاء. لا نعرف الغدر، ولا نضمر الشر، ولا نقبل الظلم، وننتصر للحق، ونحب فعل الخير.

حكامنا من أرُوْمَة قبائلنا. لم يأتوا على ظهور دبابات، أو على أجنحة طائرات، ولم تفرضهم علينا قوة خارجية غازية، أو انقلابات عسكرية دكتاتورية غاشمة، بل هم امتداد تاريخي لبيعة شرعية متوارثة. توافق عليها الأجداد، وحافظ عليها الأحفاد، فقبلوا بنا، وقبلنا بهم. عشنا معا في السراء والضراء. يشاركوننا أفراحنا وأتراحنا ونشاركهم. لهم علينا الطاعة وصدق النصيحة، ولنا عليهم إقامة الحق والعدل، وهم ونحن مجتهدون والمجتهد مأجور، ولكل مجتهد نصيب.

هذه الروابط والمُثـُل المتجذِّرة في التاريخ، والمتحقِّقة على أرض الواقع المعاش، رأينا انعكاساتها بوضوح وقد تجلت وبرزت في أبهى صورها خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الأخيرة، لـ4 دول من دول مجلس التعاون الخليجي هي: الإمارات العربية المتحدة، وقطر، والبحرين، والكويت.

في تلك الزيارات الميمنونة بحول الله وقوته، تسابق وتنافس الإخوة الخليجيون على المستويين الرسمي والشعبي لجعل العاهل السعودي والوفد المرافق له يحسّون وكأنهم في بيوتهم وبين أسرهم، وليسوا في زيارة رسمية عادة ما تكون مؤطّرة ببروتكولات رسمية وإجراءات دبلوماسية محددة، وببرامج عمل وحركات وسكنات محكومة بما تعارفت عليه الدول في زيارة قادتها لنظرائهم في دول أخرى، باستثناء هذه الزيارة الأخوية الحبِّيَّة التي هي وبكل ما في قواميس اللغة من المعاني زيارة الأخ لإخوته، وزيارة الأب لأبنائه، فلا تكلُّف في الجلوس، ولا مشالح على الكتوف، ولا خطب رنانة، أو تصريحات وبيانات مغلَّفة بالمجاملات والعبارات الدبلوماسية، بل تفاعلات شعبيَّة تلقائية تحمل بوضوح روح المحبة والإخاء والتعاطف والتقارب والتلاحم بين أبناء الشعب الواحد، وتعبّر بجلاء عن إدراك أبناء دول المجلس دون استثناء لحقيقة مصيرهم المشترك، وأهمية تكريسه وترسيخه على نحو أكثر قوة ومتانة.

يتضح ذلك في ردود الأفعال التي صدرت عن عشرات الألوف من أبناء دول المجلس عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تنادي كلها بضرورة الانتقال من التعاون بين دول المجلس إلى الوحدة المصيرية بين دوله.

فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذه العقود الثلاثة أو تزيد من نجاح التجربة في مسيرة مجلسهم تكفي لتطويرها، ونقلها إلى ما هو أسمى وأنفع لدولهم، وأشد قوة ومنعة لأرضهم، وأكثر أمنا واستقرارا ورفاهية اقتصادية لشعوبهم.

وحدتنا الخليجية ليست كتلك التي جرت بين مصر وسورية أواخر الستينات من القرن الماضي، حينما اندمجت الدولتان في وحدة أسمياها: الجمهورية العربية المتحدة، ولكنها ما لبثت أن انتهت بسيطرة إحدى طرفي الوحدة على الأخرى، مما كان سببا في الثورة على تلك الوحدة وإعلان الانفصال والطلاق البائن بينهما، ولما يمضِ عليها أكثر من 3 سنوات، كما أننا لا نريد وحدة كوحدة معمر القذافي مع عدد من الدول المجاورة لليبيا، والتي ما إن كادت تنتهي نشوة الفرح والابتهاج بكل وحدة حتى يبدأ الاختلاف والخصام بين أطرافها، وقد أوشك بعضها على اندلاع الحرب بين قطبي الاتحاد. إنما وحدتنا وحدة تنسيقية وتكامليّة في المقام الأول، تحترم وحدة أراضي الأطراف الأخرى في دول التعاون، ولا تنتقص من سيادتها على أراضيها، وتحترم قوانينها، وأنظمتها وخصوصياتها، وسائر شؤونها الداخلية، بما لا يتعارض مع ما يؤمّل من توحّد دول المجلس في قرارها السياسي، وفي أمورها الأمنية والدفاعية والاقتصادية، وفي علاقاتها الخارجية ومواقفها الدولية.

وبين أيدينا دليل أمثل وقريب للوحدة النموذجية التي تحكم الدول جدير بأن يتبع، ذلكم هو اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، فهي تعد –في نظري– من النماذج المثالية للدول الاتحادية في العالم، ولو أن العالم كله توحد في دولة واحدة على النسق الإماراتي نفسه، وبالأهداف والرؤى والنوايا الحسنة نفسها التي توحدت بها دوله، وبالقوانين نفسها التي تنظم العلاقة بين الدول الاتحادية، إلى جانب مراعاة التقاليد المحلية، واحترام الخصوصية لكل دولة، لعاش العالم كله في سلام، ولما وقع في دُوَلِه الاتحادية أي نوع من الانفصالات.