الشاعر الوقور عاشور الطويبي، الرجل الذي حلم بليبيا جميلة وحرة فقصفوا بيته، واستولى على فرش صغاره المسلحون الأوباش. ضايقوه حتى اضطر وبعض عائلته إلى مغادرة البلاد، ليستقر إنسان الصحراء الأصيل في الجزء المثلج من كوكب الأرض، هناك في النرويج، إذ يضرب الحنين والصقيع والغربة في عظامه.

التقيت بعاشور الصيف الماضي، في مهرجان سيت الفرنسي لشعراء العالم، وبمنتهى الوقار والرزانة كان يقدم رؤىً أكثر عمقا عن الشعر والشاعر.

الطويبي شديد المسؤولية والالتزام وتقدير الوقت، بالغ التأمل والبصيرة. جنونه وجحيمه عميقان وداخليان، يصبّهما في نصّه العالي، يسائل الوجود من حيّزه المرير، وعلى طريقته يهدم أدق تفاصيل العالم ويعيد تركيبها من جديد بشعرية حادة، وساخرة أحيانا، بما في ذلك كينونة الشعر نفسه.

في مجموعته "البرقوق لا ينتظر طويلا"، الصادرة عن دار أركنو في الزاوية بليبيا، عام 2013 يقول عاشور في وصفة الشعر: "خذ من صندوق الجدة حفنةً من الكلمات، اجلب من الواحة القريبة قرن غزال وقرن خرّوب، أحضر ماء ميضة من الجامع بعد صلاة الفجر، في قدح من فخار، على خشب من الزان، واخلطه مع قرن الخروب المدقوق جيدا، ثم أضف مقدار قبسة إصبعين من هذا الخليط إلى ماء الميضة في القدح، وامزجه ساعة، ثم اتركه في شمس الظهيرة، حتى غروب الشمس، وقبل أن تنام ضع في فمك الكلمات وابلعها بالماء الذي في القدح. لثلاثة أيام لا تفتح فمك إلا لشراب أو طعام، وفي اليوم الرابع كل ما تقوله: شعر وغناء".

الشاعر الحكيم وهو يقدم هذه الوصفة العجيبة للشعر، من جهة موازية يقف في حياته الصعبة على رأس عائلة من الأطباء، أفراد بيته الصغير على درجة عالية من التأهيل العلمي، ربّاهم بالصبر والحب، ودربهم طويلا على المعرفة. وبينما هو يعبرستينات العمر ستجد بين يديه (قصائد الشرفة، وأصدقاؤك مروا من هنا، والبرقوق لا ينتظر طويلا، ونهر الموسيقى)، ورواية غريبة ووحيدة، مخلوطة في مواضع كثيرة بين اللهجة والفصحى، لكنها في صميم الوجع، اسمها "دريانين". في آخرها تفيض حرقته: "ليبيا لم تتحرر أبدا، لم يحكمها ناسها، كانت دائما جسدا ينهبه الآتون من الشمال ومن الغرب ومن الشرق، يقتلون ناسها ويتركون بقايا حثالاتهم، هذا ما حدث على مدى قرون طويلة".

يرى الشاعر الغول الكامن في بلداننا وتاريخنا وثقافتنا جيدا، وكلما جاءت خضّة تفاقمت الكارثة.

أما إذا تحرك الغول يوما بالفعل فسيكون الخراب للتو بدأ.