شهدت الخمس عشرة سنة الماضية من عمر المملكة توسعاً ملحوظًا في افتتاح الجامعات في مختلف مناطق المملكة ومحافظاتها، حتى وصل عددها إلى 28 جامعة أو تزيد، فضلاً عن عدد ليس بقليل من الكليات الجامعية المرتبطة بتلك الجامعات، والمنتشرة على نطاق واسع في مختلف أنحاء المملكة، وعددها 475 كلية جامعية متخصصة، منها في بعض المحافظات الكبرى التي بها عدد من الكليات المهيأة إلى أن تكون جامعات برأسها، ولا ينقصها إلا قرار ارتقائها إلى جامعات، وخصوصاً تلك التي بها عدد من العمادات المساندة، والأمثلة على ذلك كثير، ولا يتسع المجال لتعدادها.

هذا التوسع في الجامعات، وفي التعليم بصورة عامة يمثل أولوية قصوى عند ولاة أمر هذه البلاد الذين تعاقبوا على حكمها منذ أن جعل الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- من التعليم ومحاربة الجهل والمرض الهمّ الأول له بعد تحقيق وحدة الوطن، وتوطيد الأمن في أرجائه، فكان رحمه الله يصرف بسخاء على التعليم ورجاله وطلابه في حدود الإمكانات المتاحة له في ذلك الزمن، وكان يسير بخطى ثابتة نحو افتتاح المدارس في الوطن كله، ونحو البعوث الطلابية في مختلف التخصصات إلى مصر، وبعض الدول الأوروبية.

وعلى هذا النهج سار الملوك من أبنائه حتى زماننا هذا الذي يقود دفة الحكم فيه واحد من خيرة من لهم عناية قصوى بانتشار التعليم بمختلف مراحله في عموم أرجاء الوطن، رجل التعليم الأول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي لم يترك مناسبة تمر منذ أن كان أميراً للرياض إلا ويتحدث فيها عن التعليم، وأهميته، وضرورة إشاعته، والتوسع فيه، وإتاحته لعموم أبناء الوطن والمقيمين على ترابه، فقد كان (حفظه الله) قبل أن يتولى الملك شريكًا في القرار مع إخوانه الملوك الذين سبقوه، وكانت له إسهاماته المميزة، وجهوده المشكورة والمأجورة إن شاء الله في كل منجز كبير على مستوى الوطن، ومنه التوسع في تأسيس الجامعات، إدراكا منه (حفظه الله) أن الجامعات من أهم عوامل التنمية في البلدان التي تنشأ فيها، وكلنا نعرف مدناً صغيرة في أوروبا وأميركا تدين بوجودها، وببقائها للجامعات، ولولا الجامعات لكانت نسياً منسيَّا. وعندنا في المملكة نعرف مدناً صغيرة، بعضها أشبه ما تكون بقرى صغيرة، ثم ما لبثت أن طفرت طفرات غير مسبوقة بعد افتتاح جامعاتها، ونمت نمواً متسارعاً لامس جميع مفاصل الحياة بها، واتسع عمرانها حتى تجاوز في وقت قياسي النطاق العمراني لكل مدينة، وهو ما كان له أن يحصل لولا أثر الجامعات التي حظيت وتحظى بدعم الدولة، والصرف عليها بسخاء.

وإذا نظرنا إلى بعض المناطق ومنها تبوك، والحدود الشمالية، وحائل والباحة ونجران وجازان، وما وفرته الجامعات لبعض تلك المناطق من مستشفيات جامعية متكاملة سُخِّرت لخدمة الأهالي فيها، وأيضاً ما نفذته من إسكان صحيّ فاره لأعضاء هيئة التدريس والطلاب والموظفين بها، فإننا سنلحظ أثر الجامعات ومخرجات التنمية التي ما كان لها أن تتوفر لو ترك الأمر للوزارات المختصة وحدها.

يضاف إلى ذلك ما شهدته وتشهده المدن التي افتتحت فيها جامعات إقليمية من توسع عمراني، وانتعاش اقتصادي، ونمو سكاني، فخفّت هجرة أهلها إلى المدن الكبرى كما كان عليه الحال قبل افتتاح جامعات بها، فمثلاً جامعة جازان ينتظم في صفوفها 65 ألف طالب وطالبة، أين كان سيذهب هؤلاء لولا استيعابهم في جامعة محلية هي جامعة جازان؟ والجواب معروف ومؤكد أنهم كانوا بدونها سيتوزعون على الجامعات الكبرى بالمملكة، هذا إذا استطاعت استيعابهم، فَتَخْلُو المنطقة من أهلها، ويتضاعف الازدحام على المدن الكبرى، وهذا يتعارض مع أهداف التنمية التي تركز على التقليل من الهجرة من الأرياف إلى المدن الكبرى. وقد نجحت الدولة مشكورة في تحقيق هذا الهدف بفضل الله، ثم بفضل افتتاح جامعات إقليمية في مختلف أنحاء المملكة. فظهر أثرها واضحاً في استقرار أهلها، وخلق وظائف جديدة لأبنائها، وانتعاش اقتصادها، واتساع عمرانها، وازدهار أسواقها التقليدية، وظهور أسواق جديدة بها، ومجمعات تجارية، ومرافق إيوائية لم تكن معروفة من ذي قبل. وأنا على يقين أن الدولة (أيدها الله) ستستمر في السير في هذا الاتجاه من التوسع في الجامعات، ولن يثنيها عن ذلك السير إلا ما تمر به الآن من استراحة محارب لن تلبث طويلاً إن شاء الله حتى تعود الأمور إلى ما كانت عليه من افتتاح جامعات جديدة بكل حزم وقوة وعزيمة؛ لأنها تدرك أن افتتاح الجامعات ضرورة من ضرورات التنمية، وليس ترفاً أو رفاهية أو من الأمور الكمالية، بل ضرورة للسير مع حركة التاريخ، وعجلة التطور والتقدم والتنمية في المملكة.