قبل أيام قلائل تولى أمين عام الأمم المتحدة الجديد أنطونيو جوتيريس مهام عمله الجديد رسميا، خلفا لسلفه بان كي مون الذي مكث ثماني سنوات في المنصب، دون أن يحس به أحد أو يترك بصمة ملموسة في عمل المنظمة الدولية، رغم أن سنوات ولايتيه كانتا من أكثر الفترات سخونة، لاسيما على صعيد منطقة الشرق الأوسط، ففيها تفجرت الأزمة السورية، وتعقدت مشكلة العراق، واندلعت أزمة اليمن، وبقي لبنان بدون رئيس لفترة تجاوزت عامين ونصف، ونشأ تنظيم داعش، كنبت شيطاني دخيل، ارتكب من الفظائع والأهوال ما لم يكن يخطر على بال أكثر المتشائمين، والفاعل الحقيقي لكل تلك الأزمات معروف ولم يعد يتجشم مشقة الإنكار، وهو النظام الإيراني.
كل تلك الأحداث لم تشكّل دافعا للرجل الجالس على قمة ما يفترض أنها أكبر مؤسسة دولية في العالم، ولم تمثل له سببا كافيا يدفعه إلى التدخل الفعلي، ولو بكلمة حق يثبت فيها موقفه، أو يعبر بصدق عن رأي المجتمع الدولي. لم تهزه أصوات الأطفال القتلى في سورية وهم يصطلون بنيران النظام المجرم، ولم تقض مضاجعه أنات النساء الثكالى وهن يبكين أبناءهن وأزواجهن الذين تحصدهم آلة الموت الرهيبة التي تديرها إيران، اكتفى الرجل بالوقوف موقف المتفرج وهو يرى نظام الملالي وهو يستبيح أرض العراق ويجيّش طوائف الشعب ضد بعضها البعض، ويزرع بذور الأزمات لعقود مقبلة. لم يهب أمين عام الأمم المتحدة وهو يرى الشرعية في اليمن الشقيق وهي تُسلب بأيدي جماعة الحوثيين الانقلابية وحليفها المخلوع، علي عبدالله صالح، ولم يكلف نفسه عناء الذهاب إلى بورما ليوقف مجازر البوذيين ضد شعب الروهينجا الأعزل، واكتفى -في أفضل حالاته -ببيانات الشجب والتنديد والإعراب عن القلق، حتى صار الرجل الأكثر قلقا في العالم.
ربما أن الرجل لم تكن بيده أدوات كافية تدفعه للإصلاح أو التدخل الفعلي على الأرض، لاسيما بعد غلبة المصالح والمنافع على مواقف الدول الكبرى، لكن هذا ليس سببا كافيا لمن يعرفون بواطن الأمور، فقد كان بيده فعل الكثير. كان بمقدوره أن يلجأ إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد أن فشل في تحريك مجلس الأمن الدولي بالصورة التي تحفظ للمنظمة الدولية هيبتها. وكان بإمكانه أيضا الإعراب عن رأي المجتمع الدولي الذي ائتمنه على أكبر مؤسساته، وكان في متناوله أن يمارس العديد من أدوات الضغط، ولو بالاعتكاف في مكتبه. إلا أنه أحجم عن كل ذلك، وانقاد لمصالح الدول التي أتت به إلى منصبه، ودار في فلك التسويات العقيمة والمصالح الزائلة، ولم يدرك أن التاريخ يسجل عليه كل مواقفه، ويرصد كل قراراته.
ليس هذا فحسب بل إن الأمين العام السابق عجز عن الوقوف على الحياد عند عقد تسويات مشوّهة، على غرار التي عقدتها الولايات المتحدة وروسيا، بعد أن استخدم نظام الأسد المجرم الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين العزل في غوطة دمشق الغربية، فحصد في ساعات محدودة أرواح آلاف الأطفال والنساء. وستبقى نقطة سوداء في تاريخ الأمم المتحدة وسيرة أمينها العام أنه شارك في التوصل إلى اتفاق ممهور بآلام الأطفال وصرخاتهم، ومكتوب بدماء النساء وآهات الكهول.
وبما أن البكاء على اللبن المسكوب لا يجدي، وعجلة التاريخ لن تعود إلى الوراء، فإن الآمال معقودة على الوافد الجديد إلى مبنى الأم المتحدة، البرتغالي أنطونيو جوتيريس، ويبدو أن الرجل مدرك لجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، وعالم بحجم الضغط الذي يمثله إخفاق بان كي مون، وشاعر بلهث الدول الكبرى على تحقيق مصالحها وتنفيذ أجنداتها الخاصة، لذلك بادر إلى إطلاق تصريحات عقلانية، معلنا فيها أنه لا يملك عصا سحرية أو حقيبة حلول جاهزة، تمكنه من إصلاح الوضع المؤلم الذي يعيشه العالم، وطالب موظفي منظمته بتغيير أسلوب العمل، والانتقال من مرحلة معالجة الأزمات والكوارث إلى منع وقوعها من الأساس، وهي نظرة عملية توضح أن الرجل الذي عمل لفترة سبع سنوات رئيسا لوزراء بلاده يملك رؤية واضحة للوضع الحالي. كما ألمح إلى تركيزه السعي على القفز فوق مصالح الدول الكبرى لإعادة الهدوء إلى العالم.
لا أدري ما إذا كان من حسن حظه أو سوئه أن فترة توليه المنصب تزامنت مع قدوم رئيس جديد للولايات المتحدة، بوصف الأخيرة الدولة الكبرى التي تؤثر تطوراتها على ما يجري في العالم، سلبا أو إيجابا، فالمخاوف تنبع من شعار الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، خلال حملته الرئاسية، التي أكد فيها السعي لتحقيق مصالح الولايات المتحدة أولا، لاسيما بعد تنامي دور ندها التقليدي، روسيا، في المنطقة. وهو ما ينذر باستمرار الوضع الحالي وتحوله إلى صورة أكثر شراسة، فيما يلمع ضوء خافت في آخر النفق، يدعو للتفاؤل، يتمثل في أن الولايات المتحدة لن ترضى بتضاؤل نفوذها في الشرق الأوسط، وستسعى إلى إطفاء الحرائق المشتعلة في المنطقة، وهو ما يفتح باب التفاؤل باحتمال استقرار الأوضاع، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أن ساكن البيت الأبيض الجديد معروف بمواقفه المتشددة من إيران، وتلويحه بضرورة شكمها وكبح جماحها، وانتزاع المكاسب غير المسبوقة التي حققتها في عهد سلفه المنتهية ولايته، باراك أوباما.
السؤال الأكبر أهمية من ذلك هو ماذا سيكون دورنا كعرب ومسلمين وعالم يدعوه الآخرون بالثالث؟ هل سنكتفي بانتظار معرفة تحركات الآخرين ومواقفهم تجاهنا؟ أم أننا سنعيد تشكيل مصيرنا بأيدينا، ولو بالمشاركة؟ هل سنتعلم كيفية استخدام ما نملكه من أوراق مؤثرة تضمن أن يكون لنا صوت في ما يجري حولنا؟ أم أن وراء الكواليس سيكون هو الميدان الوحيد الذي نتحرك فيه؟ وحتى معرفة الإجابة عن التساؤلات السابقة سنظل نكرر مقولتنا الخالدة "اللهم اضرب الظالمين ببعضهم وأشغلهم بأنفسهم".