في جميع الدول التي يجري فيها تبادل السلطة بصورة ديمقراطية حقيقية نلحظ تباينا في المدد اللازمة لاستلام مقاليد الرئاسة من يد رئيس مغادر وتسليمها إلى يد آخر قادم، وهي تختلف من دولة إلى أخرى، بصرف النظر عما إذا كانت هذه الدولة تتبع النظام الرئاسي المرجعي بعمومه، ومن أمثلتها فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، أو نظام رئاسة الحكومة أو رئاسة مجلس الوزراء، ومنها بريطانيا والهند على سبيل المثال لا الحصر.

ولا يهمنا في هذه المقالة القصيرة استقصاء المدد البرزخية المتبعة في جميع الدول الديمقراطية في الشرق والغرب، وإنما سأقتصر على الولايات المتحدة الأميركية لكونها تحظى بمتابعة، ربما تكون الأكبر من قبل قراء العربية هنا في هذه الجريدة أو في غيرها من الصحف العربية السيارة، ولكونها من أقرب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي عايشناها بجميع مراحلها على مدى أكثر من عام من الآن، وما زلنا نعايشها حتى كتابة هذه الأسطر، حينما يودع الرئيس الأميركي باراك أوباما المنتهية ولايته بعد ثماني سنوات من تَسَيُّده البيت الأبيض، وقدوم الرئيس المثير للجدل دونالد ترمب الذي سيعقبه في رئاسة أميركا ربما لمدة أربع سنوات في حدها الأدنى، أو ثماني سنوات في حدها الأقصى. فكلنا نعرف أن المدة البرزخية في رئاسة الولايات المتحدة الأميركية تمتد إلى أكثر من شهرين من الزمان، أي من الثامن من نوفمبر من العام الذي تُجرى فيه الانتخابات إلى العشرين من يناير من العام الجديد الذي يليه، وهي مدة لعلها من أطول المدد البرزخية على مستوى العالم في حدود علمي. وهي في الوقت نفسه كافية للرئيس الجديد لكي يسترد أنفاسه بعد مشوار الجري الطويل الذي أمضاه في سباق الانتخابات، والتنقل بين الولايات لنفس الأسباب، والصراع المحموم الذي خاضه ضد منافسه على الطرف الآخر.

ومن مزايا هذه المدَّة البرزخية اختيار الرئيس الجديد لفريق العمل الذي يأنس إليه بهدوء ورويّة، وعادة ما يكون من حزبه، ومن هؤلاء يعمل الرئيس على تشكيل وزارته، وعموم مستشاريه، بل يتعدى الاختيار إلى تغيير كبير في الطاقم الدبلوماسي الذي يمثل بلاده في الخارج، وفي المنظمات الدولية على اختلافها. وأيضا من مزايا هذه المدة البرزخية صدور بعض الإيماءات من الرئيس المنتخب فيما يتعلق بتعديله بعض المواقف المتشددة التي أطلقها أثناء حملته الانتخابية، أو لتخفيفها أو حتى بتخلِّيه عنها كسبا للرأي العام، وطلبا لتوحيد المواقف داخل الحزب الواحد في حالة وجود أطراف أخرى فيه مناوئة لبعض الطروحات الانتخابية للرئيس الجديد.

ثم إن هناك ميزة أخرى قد يقدم عليها الرئيس المنتهية ولايته لصالح الرئيس الجديد الذي سيخلفه، خصوصا إذا كان من حزبه، كما حدث في آخر أيام الرئيس ريجان، وهو من صقور الجمهوريين، حينما أقدم على التواصل مع منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتخذ من تونس مقراً لها -حينذاك-، وذلك في خطوة ما كان له أن يقدم عليها لو كان في غير هذه المدة البرزخية، لكون الاتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية كان محذورا -حينذاك- من قبل الإدارة الأميركية. وتلك الخطوة من الرئيس ريجان هي التي مهدت لخلفه جورج بوش الأب، ووزير خارجيته جيمس بيكر الترتيب لانعقاد مؤتمر مدريد للسلام في نوفمبر عام 1991، ثم ما جرَّت عليه تلك الخطوة من التواصل بين المنظمة والإدارة الأميركية حتى اليوم. ولو قُدِّر للسيدة هيلاري كلينتون الفوز بالرئاسة في الانتخابات الأميركية الأخيرة لأقدم باراك أوباما على خطوات مماثلة لصالح السيدة كلينتون لم تكن في الحسبان، خصوصا في اتجاه إيران وبعض دول أميركا اللاتينية ذات التوجهات اليسارية والمواقف المناوئة للسياسة الأميركية.

وفيما يخص الرئيس المنتخب دونالد ترمب تحديدا فإن الهَبَّة الشعبية التي قامت في جميع الولايات المتحدة الأميركية احتجاجا على انتخابه كان يمكن أن تسبب له إزعاجا كبيرا، وإحراجا أكبر لو أنه استلم السلطة مباشرة بعد انتخابه، لكن طول هذه المدة البرزخية أعطته ميزة عدم مواجهته تلك الجماهير الغاضبة وهو في السلطة، ومكنته مع الوقت من امتصاص غضبتهم التي بدأت تتلاشى رويدا رويدا، بحيث لن تكون في -تقديري- بمستوى الحدّة التي كانت عليها في الأيام الأولى لانتخابه.

وبالجملة، فإن المدة البرزخية الواقعة بين رئاستي الولايات المتحدة الأميركية المغادرة والقادمة تعطي الرئيس الجديد مزيدا من الوقت لاستعراض ما كان يدور قبله في مطبخ السياسة الداخلية والخارجية للبلد، والاستعداد لمهام الرئاسة الجديدة التي عادة لا يوافيها الرئيس المنتخب إلا وقد وطّن نفسه على الاضطلاع بها، وممارسة مختلف مهامها طبقا لتوجهات حزبه، والانتماءات السياسية للرئيس نفسه، إن كان من الحمائم أو من الصقور.