إنها المرة الأولى التي أكتب فيها عن الشعر الشعبي، والحقيقة أنني كنت مثل كثيرين لا نكاد نعرف منه إلا تلك الأسماء والقصائد في الأغاني الشهيرة.

في العامين الأخيرين، وبفضل أصدقاء من قلب القصيدة الشعبية، مثل: مهدي سعيد، والحميدي الثقفي، وضيف الله سليمان، وخالد قماش، وغيرهم، سمعت وعرفت كثيرا من الشعر المدهش.

أريد القول -على سبيل الانطباع- أن هناك ما حدث ويستحق الانتباه والقراءة المحايدة؛ بدر بن عبدالمحسن وفهد عافت مثلا وآخرون، مشوا بتجربتهم نحو حداثة شعبية متقدمة في الثمانينات، وبنضج بديع، مستثمرين رواج اللسان الملتبس بالنفوذ.

والأهم، أنهم تحركوا بوعي في الفسحة الكبيرة التي تشكلت على هامش المعركة التي شنتها الحزبيات الإسلامية على أدباء حداثة الفصحى، في الزمن ذاته، والتي راح ضحيتها بالطبع كثير منهم، وانقصفوا في أرزاقهم ووظائفهم وحرياتهم.

لقد نجحت تجربة الحداثة في شقها الشعبي باقتدار، ليس فقط لأنها نمت بعيدا عن شراسة هذه المعركة، بل لأنها أيضا كانت التعبير الذي ينسجم مع عوالم المركز، وتبنته وأنفقت على ترويجه وتكريس وجدانه شخصيات ومؤسسات بالغة القوة والثراء.

حسنا، وافت المنية مؤخرا عددا من كبار القصيدة الشعبية، كان جليا كيف استنطق الموت مداهم الزمني العميق في الناس، وحجم أثرهم الهائل.

ما حدث مثلا من ردة الفعل حول وفاة مساعد الرشيدي، يشبه اصطدام الناس بانقضاء غير متوقع لأسطورة ما، هذا الطير البدوي الرقيق، إلى جانب شخصيته المرحة والحبيبة، كان شاعرا حقيقيا، ذهب في شبابه، قال أجمل الأشياء، أحبه القاصي والداني، وفي الوقت الذي كان يتماثل للشفاء، وعلى وشك الخروج من مشفاه، يختار المفاجأة، كما الشعر، ويذهب في طريق آخر، إلى درب الأبد. قبل مغرب ذاك اليوم كان الجميع يردد كلماته، يضع صورته وينعاه.

بالطريقة ذاتها، رمى الشاعر عينيه في الجو، ولوّح كالمأخوذ، يشعر أن زوبعة تغلي في صدره، ليست زوبعة، بل الأزل المبهم، كوحش شديد الضراوة يربض جوّاه، ويحك صدغيه في قلبه. قلبه الذي يستحيل شيئا فشيئا إلى فوهة مفتوحة لحرائق الحزن.

هكذا يقلّب الشاعر عينيه في النواحي، يهشّ العدم الوشيك، وحين قفز في بِرْكة الخفاء، نبتت زنبقةٌ جوار حائط. هكذا تتشاكل روح الشاعر كبروقٍ بلا عدد، تاركةً هياجا عالقا في الوادي، وذات يوم ستنمو على فقدانه قرية بتمامها.

يرخي الشاعر عضلات قلبه المجهد، يريد لمحته الأخيرة والخاطفة، أن يتسرب بكامل خفته وأناقته في الفناء، وهو يسأل: "حزين من الشتا، ولاّ حزين من الظما يا طير!".