حين عاد أخي الأستاذ جمال خاشقجي رئيساً لتحرير"الوطن" للمرة الثانية كتبت مقالاً عن الخيول النافرة قلت فيه إن من يتجول في بيتي ويرى تلك اللوحات التشكيلية المتناثرة فيه لخيول برية جامحة فلابد أن يحكم أني أحب الخيول، ومع هذا فلم أحضر ولا سباقاً واحداً للخيول، ولا أميل لهذا اللون من النشاط، وفسرت هذا السلوك الذي يبدو متناقضاً بالقول إني لا أحب الخيول المسيّسة التي تستسلم للسرج والعنان وتتنازل عن فروسيتها لفارسها، بل أحب تلك الخيول البرية الأصيلة النافرة التي تركض وتقفز بجموح وعنفوان في المسارات التي تختارها، وتصهل إذا أرادت، وإذا وقفت بدا بوضوح شموخها وإباؤها وعشقها الكبير للحرية.
في ذلك المقال قلت إن صحيفة الوطن تذكرني بذلك النوع الفريد النادر من الخيول الجامحة التي نراها أحياناً في بعض الساحات تقدم فصولاً فريدة من الفروسية، فما إن يعتلي الفارس ظهرها، وتدخل الساحة الفسيحة حتى تبدأ في ممارسة جموحها، فتبدأ قفزاتها العالية العاتية، ويبدأ ظهرها يعلو ويهبط بسرعة وعنف أيضاً، ويظل فارسها في حالة صعبة جداً وهو على تلك الحال، والشاطر من الفرسان ليس هو من لا يسقط من على ظهرها، فالسقوط حتمي، لكن الشاطر من يمكث أطول فترة ممكنة.
التحدي الذي يواجه الفرسان مع تلك الخيول الجامحة، هو كيف يستطيع الفارس أن يعطي الفرس المزيد من القوة والجموح والعنفوان لتقدم المزيد من ذلك الإبداع الذي قدمته في عصر سلفه، وفي الوقت نفسه يستطيع البقاء على ظهرها أطول فترة ممكنة، أي كيف يكون أكثر تحفيزاً وحثاً وتشجيعاً، وأكثر قدرة على مواجهة المشقة.
لقد تابعت مثل غيري من محبي "الوطن" مسيرتها ومسيرة فرسانها، وكنت أستمتع بفنون الفروسية التي يقدمونها وأشعر في أحيان كثيرة بالمتاعب الكبيرة التي يواجهـونها، لقـد كانـوا أحياناً يطربون معها، فيطربونـها، ويعطونها الحيوية والـتألق، وأحياناً يخفضـون رؤوسـهم حين تهب الرياح العاتية، ويحنون ظهورهم، ويحـاولون تهدئتها، وفي جميع الحالات كانوا يسقطون أو يترجلون.
مشكلة من يتشجع ويقبل أن يكون فارساً لـ"الوطن" كما ذكرت في تلك المقالة السابقة أنه لابد أن يسقط أو يترجل من فوق ظهرها، فالمسألة مسألة وقت، ومن يرد السلامة فيحاول تسييسها والحد من صهيلها وجموحها فإنها هي التي تسقطه من على ظهرها.
حين جاء الأخ جمال فارساً لـ"الوطن" في المرة الأولى كان محباً لـ"الوطن"، بل عاشقاً لها، وقد أعطاه هذا العشق دفعة قوية من الحيوية والحماس فمنحها جزءاً منه، فتعالت وثباتها وارتفع صهيلها فسقط فجأة من على ظهرها في غمضة عين.. أما حين جاء فارساً للمرة الثانية فقد كان متسلحاً بالعبر والخبرة والدروس، وقد قلت للقراء آنذاك وهو يستوي على ظهرها إنه ليس هناك أمامه سوى واحد من احتمالين.. فإما أن يُرضي الفرس ويُرضي محبيها ويقدم فصلاً شائقاً من فصول الفروسية ويواجه مشقة عنفوانها وجموح قفزاتها ويظل الحكم على نجاحه مرهوناً بزمن بقائه فوق ظهرها، أو يُغضب الفرس ويشرع في تقديم فصل باهت فتسقطه هي من فوق ظهرها.
الآن أنهى الأخ جمال فصل الفروسية الذي قدمه لنا، وبحق فقد كان فصلاً جميلاً شيقاً، أرضى به الفرس فأرضت جمهورها، ومع هذا ظل على ظهرها فترة طويلة تعرض خلالها لصنوف من العواصف والمواقف الصعبة، وأعطاها الكثير من حبه وعشقه وإخلاصه للمهنة، فزاد ذلك من جموحها وعنفوانها وجمال رقصها، وها هو الآن يترجل ـ مشكوراً ـ بعد ذلك الفصل المثير الشيق من الفروسية الذي سيكتبه تاريخ الصحافة له بمداد أخضر، لأنه لم يحاول خلاله أن يصنع لـ"الوطن" سرجاً يخفف عليه مشقة قفزاتها الجامحة، ولا عناناً يحاول به لجم عنفوانها، بل على العكس كان هو المشجع والدافع والمؤازر لها لتزداد حماساً ونشاطاً وعطاء وتتواصل وثباتها.
لقد ترجل الزميل العزيز بعد أداء متميز ليحين فصل جديد من فصول الفروسية سيقوم به زميل عزيز آخر هو الأستاذ سليمان العقيلي الذي عايش تلك الفرس منذ بروزها على ساحة الحدث، وكان من الراعين المحبين المشجعين لطموحها وجموحها، المقتنعين بدورها، الخبيرين بطباعها، الحريصين على بقاء عزتها وشموخها وكرامتها وإبائها، المؤيدين لنهجها الذي تحدث عنه بكلام جميل بليغ قبل يوم أمس.
وكما استمتع القراء بذلك الفصل من الفروسية الذي قدمه أبوصلاح فإني أعتقد أنهم سيستمتعون أيضاً بفنون شائقة من أبي معاذ، ولمن لا يعرفه أحيله لكلمته العاقلة الجميلة التي عدد فيها محاسن سلفه وأثبت المكانة الكبيرة لـ"الوطن" ولأبي صلاح بأسلوب مقنع معبر حين أحال القارئ لما أحدثته استقالة جمال من صدى كبير يفصح بجلاء عن الحجم الكبير للمكانة التي عناها، كما أحيل من لا يعرفه لمقالاته العميقة العاقلة في "الوطن".
أخي أبومعاذ هو ابن الصحافة الذي صعد سلالمها الطويلة بمثابرته وإخلاصه وعقلانيته، وأكثر ما يعجبني فيه أنه لا يحتاج ولا يسعى لأن يكون له ظهر سوى عقله وحبه لوطنه.. البلد.. والصحيفة.. وفقه الله وأعانه على المهمة الصعبة ليجمع بين إعطاء "الوطن" ما تستحقه والصبر على مهرها الكبير المتمثل في المشقة الكبرى التي لابد أن يتعرض لها كل فارس مع تلك الفرس النافرة التي لشدة جموحها مازال رؤساء تحريرها يتساقطون..