في أثناء حوار شهدتْه إحدى المجموعات الـ"واتسية"، كتب العضو الأمّي (نسبة إلى الأمة): "لا تهمني أوطانكم ولا مدنكم ولا جبالكم ولا صحاريكم فأنا أنتمي إلى المبدأ، وهو عندي هذه الأمة التي كانت خير أمةٍ أُخرجت للناس".

لم أحاورْه في "القروب"؛ لأنني أعلم علم اليقين، ومن خلال تجارب سابقة معه، أن الحوار في ذاته ليس هدفه، وإنما هو يطرح رأيه ليستفز الأعضاء، ثم يصور كلامه وردودهم، وينقلها إلى مجموعات أخرى، ليطير بها فرحاً أمام أسياده، قائلا: "انظروا، لقد ألقمت الليبراليين حجرا"!

هذا الأمي، وأمثاله، وأسياده الذين غرسوا في ذهنه هذه الفكرة، ثم روجوا لها باستخدام الدين لأسبابٍ سياسية خالصة؛ يدركون أن الانتماءات الهلامية التي ينادون بها، منافية للفطرة، وأن المكان هوية، وذات، وكينونة، فلا قيمة للإنسان بلا وطن، كما أنه لا حياة للشجرة بلا جذور، لكنهم يرون المصلحة السياسية في إذابة الانتماءات الفطرية جميعها، كيلا تصرف الناس عن الانتماء إلى فكرهم/ حزبهم... وهيهات..

لن أرد عليه بما لا أعرف، وسأكتفي بما أعرف، وهو ظهور أثر الانتماء إلى الأوطان على أشكال تعبير الإنسان عن الوجدان عبر العصور، وفيه دليل على منافاة الفطرة عند الاستعاضة بالانتماء إلى فكر أو حزب أو أدلوجة، عن الانتماء إلى وطن/ مكان يشكل الركن الرئيس عند التعبير عن خلجات الإنسان، سواء أكان هذا التعبير من خلال قصيدة، أم قصة، أم رواية، أم مقالة، أم ملحمة، وليس أدل على ذلك من أن المكان أساس في النص الشعري خاصة؛ ذلك أن المكان مرتبط بالذات، والشعر تعبير عنها، فلا يتوقف حضور المكان حسيا، ولا ينفك يظهر شعريا، حتى إنه من غير الممكن فهم أي نص وتحليله دون الرجوع إلى المكان بوصفه أحد عناصر العلاقات النصية، وهي: الزمن، والشخصية، والرؤية؛ إذ لا يمكن إدراك الزمن أو الشخصية أو الرؤية إلا من خلال المكان، وذلك وفق علاقة جدلية معلومة بين هذه العناصر.

وعند العرب، ليست تخفى العلاقة بين الشعر والمسكن، وهو جزء مهم من المكان، حتى إنهم يسمون به البيت من الشعر، وبمثل هذا تتضح العلاقة بين: البيت بوصفه مكاناً، والشعر عند العرب، وهي علاقة بين الإنسان وكونه الأوّل، كما يقرر باشلار، حين يقول: "البيت هو ركننا في العالم، إنه كما قيل مرارا، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى"، ويوازي هذا كون علاقة المكان بالشّعر عند العرب نابعة من وجدان العربي الذي جعل الشعر موازيا للمكان/ البيت، ويضاف إليه أن العربي قد جعل من الشعر معْلماً يعوض فقر المعالم الحقيقية في البيئة، فاللغة عنده معْلم أكثر حضوراً من المعالم المحسوسة، وهو الواضح في لغة الشعر البدوي.

والناظر في شعر بيئات الاستقرار مثلا، يجد أن الحنين إلى الأماكن يستغرق قدراً كبيراً من معاني شعر الحنين عند شعرائها، وتلك بدهية تفسر تعلق هؤلاء بأماكنهم، قبل أن يتعلقوا بأفكارٍ سياسية طارئة وغير منطقية، تحاول انتزاعهم من جذورهم انتزاعا، لتحوّلهم إلى أدوات مطيعة تهيم على وجوهها باحثة عن حلم الخلافة، أو إلى أدوات محاربة من أجل الانتماء إلى ما لا يمكن الانتماء إليه، فضلا عن أنه هو لا ينتمي إلى شيء حتى الدين نفسه، وإنْ رفعه شعاراً.

أيها الأمي: لن تصرفنا عن حب أوطاننا، فحبها علامة من علامات سلامة العقل، وهو ما عبر عنه الجاحظ بالرشْد، حين قال: "من علامة الرشْد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة"، أما الدعوة إلى الانتماء إلى شيء غيرها، فهو علامة من علامات "الخبال"، وهو شيء يتناقض وسلامة العقل.