كعادته يأتي الموت على غفلة، وبطريقة بشعة ينتزع أكثرنا رسوخا في الحب، يأخذه ويلفظنا نحن بقسوة على قارعة الألم بانتظار فقد آخر، أكثر وجعا ووطأة على أنفسنا. نواجهه بألم متناه. نحشد كل قوانا وتصبرنا وعبارات المواساة التي قد تسهم في تخفيف حدته الحارقة لقلوبنا. نفعل ونحن لا نعلم أن هناك أقسى من الموت يتربص بمشاعرنا، بل يسابق الموت أيهما ينتصر ويكون الأقوى في جرحنا وتمزيق قلوبنا، أعني بذلك القبح الذي يسكن نفوس بعضنا ويعريها ويجردها من إنسانيتها وتراحمنا.

الكادحون من أجل الحياة وأعني بها الحياة الحقيقية المتمثلة في الأدب والثقافة ووعي المجتمع، هؤلاء هم الذين يستحقون الحياة، وأن ترتفع أصواتنا من أجلهم ولهم.. يستحقون حياة كريمة، والفائض من أعمارهم بحث عن رغيف يومهم..

الأديب لا يجيد استخدام حقنة الطبيب، ولا حمل حقيبة الدبلوماسي، ولا يملك دفتر شيكات رجل الأعمال، ولا يتقن الدفاع عن نفسه بسلاح الجندي..

ما يذود به عن نفسه ويسهم به في وعي مجتمعه هو القلم والقلم وحده الذي يستخدمه، في الوقت الذي يكون فيه العالم محتفيا بأدبائه أحياء وأمواتا، نحن نشيعهم (أحياء) بعبارات ميتة، بل تميت فينا كل عرق ينبض بالإنسانية.

رأيت صورة الروائي الكولومبي الشهير (غابرييل غارسيا ماركيز) على العملة الكولومبية، فسألت نفسي ما الفرق بيننا وبينهم؟

ألسنا من ينظر حول حق الإنسان وكرامته؟ ألسنا المسلمين؟ ألسنا من نرى أنه فضل على كثير من مخلوقات الله؟ أليس الأديب إنسانا كالتاجر والشيخ واللاعب والضابط؟

تزعجني كثيرا فكرة التعامل مع الأديب على أنه مخلوق غريب، ليس له حقوق كالآخرين، بل بعضنا يستهجن مطالبتنا بحق الأديب في الحياة أسوة ببقية البشر، الذين يتمتعون بميزات غير مستحقة.

أيها الرافض للمطالبة بحق الأديب في العيش والحياة والشفاء من المرض، ليتك تعيش حياة أحد الأدباء الكادحين، أو حتى تتقمص دوره لعدة أيام، لتعلم أنه من يعيش الفاقة والألم والمرض، ومع ذلك يتقاسم مع الناس أوجاعهم وآلامهم، ولا ينتظر الأضواء التي تسلط عليه، أو الأقلام التي تتزلف وتقترب منه. الأديب صامت منزو مهاجر بوجعه يكتفي برغيفه وما تيسر من الحبر والورق يدون عليه وجعه ويبث حزنه.

فليتنا كحد أدنى نغض النظر عنه وندعه يتعايش مع حياته كيفما يريد له الله، إن سخر له من يلتفت إليه ويكرمه ولو قليلا، أو يبقى يتصارع مع الحياة ومنغصاتها حتى يقضي الله له أمرا كان مفعولا.