ينتظر العرب منذ قرابة خمسين عاما من الإدارة الأميركية أن تحل مشاكلهم، وعلى رأسها الصراع العربي الإسرائيلي وقضية فلسطين ثم الأراضي العربية الأخرى المحتلة.

تأتي إدارة ديمقراطية سيئة منحازة لإسرائيل، فيقول مسؤولونا لننتظر الإدارة الأميركية الجديدة، وقد تكون جمهورية تجري تغييرا على السياسة الخارجية الأميركية فيتبين غالبا أن مثل هذه الإدارة هي أكثر انحيازا لإسرائيل، وأشد شراسة في التعامل مع العرب والحقوق العربية.

وربما يمكن الحديث هنا عن استثناء واحد وحيد هو إدارة نيكسون -كيسنجر، فقد تمكنت هذه الإدارة بفضل دهاء وخبث المخطط الاستراتيجي "العزيز هنري" من دفع مصر السادات وإسرائيل إلى ما بات يعرف باتفاق كامب ديفيد. لكن الهدف الحقيقي من وراء ذلك الاتفاق كان إخراج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، عملا برؤية خمسينية خطت معالمها منذ خمسينات القرن الماضي تقول إن العالم العربي هو مثل طير "نسر" قلبه مصر وجناحاه المشرق، سورية والعراق ثم المغرب، وتحييد مصر يفقد هذا الطير توازنه تماما، لغياب قلبه ويصبح مهيض الجناحين يتخبط دون جدوى وهذا ما حدث بالضبط وهو مستمر حتى الآن.

إدارة أوباما الراحلة وعدت بالتوصل إلى حل بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غضون تسعة أشهر، وجاء ذلك على لسان وزير خارجيتها جون كيري، وها قد مرت تسع سنوات تقريبا وكان آخرهم لتلك الإدارة ذلك الصراع فقد أدارت ظهرها تماما له وتركت الحبل على غاربه لحكومة نتنياهو تفعل ما تشاء، وحين أعلن كيري بالأمس القريب أن المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية غير شرعية قامت قيامة حكومة إسرائيل عليه فأتى إلى باريس حيث أمضى نصف نهاره وهو ملتصق بالهاتف يتحدث مع نتنياهو ويقدم له التبريرات والأعذار. لقد كانت إدارة أوباما إدارة كذب وتضليل ومراوغة ونفاق سياسي بامتياز.

ظهر ذلك جليا في القضية الفلسطينية والمسألة السورية بشكل خاص.

نحن اليوم أمام إدارة أميركية جديدة، ترمب ورجاله، وبالتالي نحن أمام وضع ومرحلة جديدين كليا، وبالإمكان عنونة هذه المرحلة بـ"الالتباس"، فترمب أعطى إشارات متضاربة وأحيانا متناقضة، ويبدو من خلال تصريحاته أنه لا يملك رؤية واضحة للصراعات في منطقتنا ولا لسبل حلها بالطرق الدبلوماسية.

ملامح توجهات ترمب تشي بأنه سيميل إلى الانعزالية في خطه السياسي، فهو يرفض التدخل من الخارج لإسقاط أي نظام، مهما كان هذا النظام وخطورته، مؤكدا أن كل مجتمع مسؤول عن مصيره.

ترمب سوف يركز على الأرجح على القضايا الاقتصادية وقضايا العمل والمال والأعمال، بسبب تكوينه الشخصي، كما أنه كصاحب خط شعبوي وقومي متطرف سوف يركز على قضايا الهوية ومحاربة اليسار الداخلي والهجرة الأجنبية، والمراسيم الثلاثة التي وقعها فور دخوله البيت الأبيض تعبر عن هذه النزعة، مرسوم ضد الإجهاض، ومرسوم تشغيل خط إمداد نفطي غازي بين أميركا وكندا بطول 1900 كلم وهو بمثابة مشروع اعتبره المرشح الرئاسي السابق ساندي بيرنز ومدافعون عن البيئة فضيحة وتهديدا للصحة العامة وللكوكب والمناخ بشكل عام.

والمرسوم الثالث كان إنشاء جدار العزل مع المكسيك وتقليص الهجرة الأجنبية ودخول المهاجرين، خاصة المسلمين، إلى الولايات المتحدة، معلنا في تغريدة له على تويتر "غدا يوم عظيم للأمن القومي الأميركي، سوف نبني الجدار"، وهي عبارة تشي بتوجه واضح وتغني عن أي بيان.

وعلى صعيد مواقفه الخارجية سارع الرجل إلى إعلان صداقته لإسرائيل ونيته نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وهو في العرف السياسي اعتراف بأحقية إسرائيل في القدس، ونسف للقرارات الدولية الخاصة بالمدينة المقدسة وبالصراع العربي الإسرائيلي عموما، هل ينفذ وعوده أم يتراجع؟ تلك مسألة أخرى ستكشفها الأيام المقبلة.

كما بدت مواقفه إزاء روسيا متناقضة، فمرة يريد التعاون مع بوتين لحل بعض المشاكل العالمية وعلى رأسها سورية، ومرة يصرح أن التدخل الروسي في سورية سيئ جدا، هل سيتبع سياسة بوتين في سورية أم سيفرض تغييرات جذرية؟ الأمر غير واضح على الإطلاق، ويضاف إليه إعلانه أن العدو الرئيسي له هو الإسلام المتطرف الراديكالي الذي سيزيله عن وجه الأرض، والمشكلة تكمن في أنه لم يقدم لنا، كما لم يقدم أحد من قبله، أي تعريف واضح ومحدد للتطرف والإرهاب، وفيما إذا كانت القاعدة والنصرة إرهابيين فيما الميليشيات المتطرفة الموالية لإيران إسلامية معتدلة؟

من المرجح إذن أن يتعامل ترمب مع القضايا العالمية كرجل دعاية وإعلام، على اعتبار أنه إعلامي كان يدير برنامجا شهيرا على إحدى القنوات الأميركية لمدة عشر سنوات، ومع بعضها الآخر كرجل أعمال له مصالحه الخاصة وشركاته الخاصة، وربما ينظر إلى أميركا بحد ذاتها كشركة كبرى عالمية تبحث عن فوائدها الخاصة، أو قد يفاجئنا تماما كما فاجأنا بوصوله إلى البيت الأبيض، ويتعامل كرئيس مسؤول ملتزم بالدستور الأميركي والقيم الأميركية و"أميركا زعيمة العالم الحر" وواجبها الدفاع عن الحرية في العالم.

وإلى أن تتكشف لنا مفاجآت ترمب علينا كعرب أن نتوقف عن انتظار الحلول الأميركية، وألا نلدغ من جحرنا للمرة الألف، فمئات المرات حتى الآن باتت كافية.